لماذا لم تستجب سوريا لعرضٍ تُركيّ بدعمها في مُواجهة “المُتمرّدين” الأكراد؟
لماذا لم تستجب سوريا لعرضٍ تُركيّ بدعمها في مُواجهة “المُتمرّدين” الأكراد؟…. حيث فاجأ السيّد مولود جاويش أوغلو وزير الخارجيّة التركي الكثيرين في المِنطقة العربيّة وخارجها عندما أعلن، وبعد عودة رئيسه رجب طيّب أردوغان من القمّة الثلاثيّة في طِهران “أن بلاده ستُقدّم كُلّ أنواع الدّعم السّياسي إلى دِمشق من أجل إخراج الإرهابيين من المِنطقة (قوّات سورية الديمقراطيّة وحزب العمّال الكُردستاني)”، وقال “إن بلاده أجرت سابقًا مُحادثات مع الإيرانيين في هذا الصّدد”.
عُنصر المُفاجأة يأتي من كون هذا الكلام القويّ يصدر للمرّة الأولى، ومُنذ اندِلاع الحرب السوريّة قبل 11 عامًا، وتورّط تركيا فيها ووقوفها في خندق الجماعات المسلّحة التي تُمَوَّل من أمريكا ودول خليجيّة من أجل “تغيير النّظام”، وجاء حشد تركيا مُؤخَّرًا عشَرات الآلاف من الجُنود على الحُدود الشماليّة، وتهديد الرئيس أردوغان بالاستِعداد لشنّ هُجومٍ لإقامةِ مِنطَقةٍ عازلة بعُمق 30 كم لاستِيعاب 3.7 مِليون لاجِئ سوري في تركيا يُريد التخلّص منهم قبل الانتِخابات الرئاسيّة بعد عام تقريبًا، وربّما هذا ما ينطبق عليه القول “حُلُم إبليس بالجنّة”.
عدم صُدور أيّ تعليق رسمي من القِيادة السوريّة ومُؤسّساتها على هذا التّصريح المُفاجئ والفريد من نوعه، يعكس عدم وجود قناعة بمصداقيّة هذا التّصريح، أو الثّقة بالرئيس أردوغان ونواياه، واعتِباره مُجرّد “مُناورة” أو “بالون اختِبار” لخلط الأوراق لا أكثر ولا أقل حسب ما ذكرته لهذه الصّحيفة مصادر مُقرّبة من السّلطات السوريّة.
ما يُعَزِّز هذا الموقف الرسمي السوري، أن الرئيس أردوغان الذي استخدم تحشيداته لقوّاته، وتِكرار إعلانه بدء الهُجوم مُنذ أكثر من شهر كورقة ضغط، وترهيب لسورية، لم يُنَفِّذ هذا الهُجوم حتّى الآن على الأقل، لأنّه يُدرك جيّدًا أن العواقب ستكون وخيمة، وستدفع بلاده ثمنًا باهظًا، نتيجة تورّطها في حربٍ إقليميّة قد تمتدّ لأشهر وتُطيح بحزبه في الانتِخابات المُقبلة.
القيادة السوريّة لا تثق بالرئيس أردوغان ولا بمَواقفه المُتقلّبة، ولا تأخذه بالجديّة الكافية، وتُدرك جيّدًا أنّه في مَوقفِ ضَعفٍ داخليّ وإقليميّ، بعد فشل كُل مُراجعاته السياسيّة تُجاه مِصر والسعوديّة والإمارات، وتعرّض قواعده في العِراق لقصفٍ صاروخيّ، وتوتّر عُلاقاته مع موسكو لعدم التِزامه باتّفاقات “سوتشي” بإنهاء وجود المُسلّحين المُصَنَّفين إرهابيًّا في إدلب قبل ثلاث سنوات، ومُحاولة اللّعب على كُلّ الحِبال في الأزمة الأوكرانيّة، ومنْع مُرور السُّفن من مضيقيّ البوسفور والدردنيل، وتقديم طائرات مُسيّرة (بيرقدار) إلى الجيش الأوكراني ممّا ألحق أضرارًا بشريّة ضخمة في صُفوف القوّات الروسيّة المُهاجمة.
ما يُثير شُكوك السّلطات الروسيّة والسوريّة معًا، تُجاه تصريحات السيّد أوغلو المذكورة آنفًا، أنّه كان يتحدّث عن “الإرهاب الكُردي” فقط، ولم يأتِ على سيرة الجماعات المُصَنَّفة إرهابيًّا في سورية أو مُواجهة “المُتمرّدين” الأكراد وتحظى بدعم السّلطات التركيّة وحِمايتها وتسليحها، باعتِبارها (مُعتدلة)، ورفض الرئيس أردوغان الذي فتح حِوارات وزار عواصم جميع خُصومه (مِصر، الإمارات، السعوديّة)، أيّ حِوار مع سورية والرئيس بشار الأسد شخصيًّا (هُناك رأي يقول إنّ الرئيس الأسد نفسه يرفض مِثل هذا الحِوار لعدم ثقته بالرئيس التركي).
هُناك عدّة عوامل دفعت بالسيّد جاويش أوغلو لإطلاق هذا “البالون” وفي مِثل هذا التّوقيت:
الأوّل: تقدّم المُحادثات بين الجانبين السوري والكردي (قسد) لتعزيز التّنسيق المُشتَرك ضدّ الجيش التركي وهُجومه المُحتمل، وعزم روسيا دعم هذا التّنسيق وضمّ قوّات “قسد” إلى الجيش العربي السوري.
الثاني: مُعارضة السيّدة أنالينا بيربول وزيرة خارجيّة ألمانيا أيّ هُجوم تركي على شِمال سورية أثناء زيارتها اليوم لأنقرة، لأنّ مِثل هذا الهُجوم سيَصُبّ في مصلحة الجماعات الإرهابيّة وخاصَّةً تنظيم الدّولة الإسلاميّة (داعش)، ووزيرة خارجيّة ألمانيا تُمثّل الاتّحاد الأوروبي أيضًا.
الثالث: إعلان مُتحدّث باسم وزارة الدّفاع السوريّة إن الجيش العربي السوري في حالِ جُهوزيّة عالية للتصدّي لأيّ عُدوان تُركي مُحتمل أو من التّنظيمات المُسلّحة التّابعة له.
الرابع: تقديم كمال كليجدار أوغلو زعيم الحزب الجمهوري والمُعارضة التركيّة (جبهة من ستّة أحزاب) خطّة مُتكاملة لإعادة جميع المُهاجرين السوريين إلى بلادهم بالاتّفاق مع الدّولة السوريّة، ووضع خطّة شاملة لإعادة الإعمار في سورية بدَعمٍ من الاتّحاد الأوروبي يكون للمُقاولين الأتراك الدّور الأكبر فيها.
مُعضلة الرئيس أردوغان الكُبرى تَكمُن في كونِ الوقت لم يَعد في صالحه، وعدم رغبته، وربّما قُدرته على تقديم حلول للوضع في إدلب وشمال سورية، وتَعاظُم التّنسيق بين الدّولة السوريّة والمُنظّمات الكرديّة التي باتت تلجأ لحِماية مظلّتها، و عدم مُواجهة “المُتمرّدين” الأكراد والعودة للهُويّة السوريّة الجامعة بعد أن تخلّت عنها القوّات الأمريكيّة المُتواطِئة مع الهُجوم التركي، فالأزمات تتفاقم في وجْه الرئيس التركي على مُعظم الجبهات.
توجيه البوصلة من قِبَل أردوغان نحو دِمشق فكرة إيجابيّة إذا صحّت النّوايا، وجرى استعادة الثّقة، ولكن “الدّهاء” الشّامي حَذِرٌ، ويَحسِب حِساباته بشَكلٍ جيّد، فإذا كان هذا “الدّهاء” لم يستسلم في ذروة الأزمة، وعندما كانت الجماعات المُسلّحة على بُعد بضعة كيلومِترات من العاصمة، فهل يخدعه بالون الاختِبار الأردوغاني الأخير، خاصَّةً أنّ الانتِخابات الرئاسيّة باتت قريبةً جدًّا، وكُل استِطلاعات الرأي تُؤكّد تقدّم المُعارضة وتراجع حُظوظ أردوغان بالفوز.
الرئيس أردوغان فقد فُرصةً ذهبيّةً “لا تُعوّض” لإعادة العُلاقات والتّنسيق مع سورية عرضها عليه الرئيس بوتين في اجتماع “سوتشي” قبل الأخير بإحياء “مُعاهدة أضنة عام 1998” التي تُؤَمِّن الحُدود التركيّة السوريّة بالتصدّي لكُلّ أنواع الإرهاب، لاعتِقاده أنّه سيفوز في نهاية المطاف.
الرئيس أردوغان في وَضعٍ حَرِجٍ جدًّا، فعُلاقاته مع جميع دول الجِوار مُتوتّرة، وأزمته الاقتصاديّة تتفاقم، وقد يكون خَسِر روسيا دُونَ أن يكسب أمريكا بسبب أزمة أوكرانيا.. واللُه أعلم.