لهذه الأسباب فاجأتنا وثيقة “حماس” التي حملت عنوان “هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟”
عبد الباري عطوان
الوثيقة التي أصدرتها حركة المُقاومة الإسلاميّة “حماس” باللّغتين العربيّة والإنكليزيّة في 18 صفحة، جاءت في الوقت المُناسب، وردًّا على الكثير من المزاعم الإسرائيليّة الكاذبة، وخاصَّةً تلك التي انتشرت في الأيّام الأولى لـ”طُوفان الأقصى” عن إقدام عناصرها على قتل أطفال واغتِصاب نساء اثناء اقتِحام مُستوطنات غلاف غزة في السّابع من تشرين أوّل (أكتوبر) الماضي، وهي التي خدعت شخصيّات كُبرى على رأسِها الرئيس جو بايدن، وعدّة وسائل إعلام كانت تدّعي الدقّة في معلوماتها وتغطياتها مِثل الـ”سي إن إن” والـ “بي بي سي”.
إصدار هذه الوثيقة، وعلى هذه الدّرجة العالية من الحكمة، والرّصانة، والعُمُق السّياسي، وبعد أكثر من مئة يوم على العُدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يعكس تكامل الجناحين السياسي والعسكري في الحركة، مثلما يعكس وجود عُقول استراتيجيّة قادرة على تفنيد الادّعاءات الإسرائيليّة بكفاءةٍ عالية، وبالوقائع والحُجَج القويّة.
فعندما تقول الوثيقة إن هُجوم السّابع من تشرين أوّل (أكتوبر) الذي حمل اسم “طُوفان الأقصى” “كان خطوة ضروريّة” لمُواجهة مُخطّطات إسرائيل لتصفية القضيّة الفِلسطينيّة، وتهويد المسجد الأقصى”، وتُؤكّد “أن معركة الشّعب الفِلسطيني مع الاحتِلال والاستِعمار لم تبدأ في التاريخ المذكور (السّابع من تشرين) بل بدأت قبل 105 أعوام، 30 عامًا منها تحت الاحتِلال البريطاني، 75 عامًا من الاحتِلال الصّهيوني” فإنّها تنسف بذلك السّرديّة الإسرائيليّة الأخطر التي جرى ترويجها، وتبنّتها بعض الحُكومات الغربيّة للأسَف.
هُجوم “طُوفان الأقصى” كان، وسيظل، نصرًا تاريخيًّا فِلسطينيًّا غير مسبوق، زعزع الأُسس الرئيسيّة التي يقوم عليها مشروع الاغتِصاب الصّهيوني العُنصري، وعلى رأسِها الرّدع العسكري، والأمن والاستِقرار، والجيش الذي لا يُهزَم.
هذا الهُجوم كان مُناقضًا لمُعظم الحُروب العربيّة السّابقة، من حيث التكتّم والقُدرة العالية جدًّا على الأعداء، ووضع الخطط الاقتحاميّة الدّقيقة واختِراق المنظومتين العسكريّة والاستخباريّة الإسرائيليّة، وإلحاق أكبر عدد من الخسائر العسكريّة (1200 جُندي ومُستوطن)، وإصابة 4000 آخَرين، وأسْر ما يَقرُب من 300، والأهم من كُل ذلك جرّ دولة الاحتِلال إلى حربِ استنزافٍ خاسرةٍ، ومُهينة في قطاع غزة، وفضح معدنها الدّموي وحُروبها الإباديّة وتطهيرها العُنصري.
إنّها المرّة الأولى مُنذ بدء الصّراع العربي الإسرائيلي يتم نقل المعارك إلى قلب دولة الاحتِلال، وعزلها عن العالم، ونسفت هذه الحرب كُل الأرقام القياسيّة في طُولها عربيًّا، مع عدوٍّ كان يحسم معاركه على جبهاتٍ عربيّة في ساعاتٍ، أو بضعة أيّام، ويتم فيها “تحييد” سلاح الجو، من حيث شلّ قُدراته العمليّاتيّة في القضاء على كوادر المُقاومة، وأسْر أو قتل قِياداتها، واقتِصاره فقط على ارتكِاب مجازر في حقّ عشَرات الآلاف من الأطفال والنّساء.
حرب “طُوفان الأقصى” لم تكشف عن إدارةٍ غير مسبوقة، وصُمود إعجازي في مُواجهة قوّات الاحتِلال فقط، وإنّما أيضًا عن قيادةٍ أُسطوريّة، بعُقولٍ جبّارة، ونفسٍ طويل، لا تهاب الموت، بل تتطلّع إليه، باعتِباره شهادة دفاعًا عن العقيدة والوطن، قيادة انبثقت من رَحِمِ المُعاناة الشعبيّة، وبُوصَلتها المسجد الأقصى، وهدفها تحرير كُل الأراضي الفِلسطينيّة المُحتلّة من البحر إلى النهر، وغير مُخترقة من المُحيط العربيّ الفاسِد المُطبّع المُتواطِئ.
نحن نقف أمام حركة تحرير فِلسطينيّة نقيّة، ومُختلفة عن مُعظم سابقاتها، قرارها مُستَقِلٌّ فعلًا، وسياسيًّا، وعسكريًّا، وباتت استِعداداتها للحرب، وتنفيذها، وإدارتها، تُدرّس في الأكاديميّات العسكريّة العالميّة، ذات الشّهرة العالميّة، مِثل سانت هيرست في بريطانيا، أو ويست بوينت في واشنطن، ومثيلاتها في الصين وروسيا ودُوَل أوروبيّة أُخرى.
الحرب لم تعد بيانات عسكريّة عن سير المعارك فقط، وإنّما باتت تأطيرًا سياسيًّا استراتيجيًّا ورؤية مُستقبليّة، وردًّا شاملًا مُقنعًا على ادّعاءات العدوّ، ووثيقة “حماس” وصُدورها في هذا التّوقيت تضمّنت كُل هذه العوامل، وجاءت خريطة طريق للحركة، ومُخاطبة ذكيّة لحاضنتها الشعبيّة أوّلًا، وردًّا مُفحِمًا على أكاذيب الأعداء ثانيًا، وهذا ما يُفسّر خسارة كُل الرّهانات على هزيمتها، ويزيد من شعبيّتها من 50 بالمِئة إلى أكثر من 75 بالمِئة في أوساط قاعدتها الشعبيّة رُغم ارتفاع عدد الشّهداء والجرحى من جرّاء القصف الصّهيوني المُتعمّد.
صحيفة رأي اليوم الالكترونية