لوري وإيما تفندان أشهر ثلاثين خرافة عن شكسبير
ستظل أعمال وسيرة حياة الشاعر والمسرحي الإنكليزي العظيم وليم شكسبير محل اهتمام الأدباء والنقاد ومؤرخي الأدب والمترجمين وعلماء اللغة والاجتماع، ومثار جدل وقراءات ومناقشات واسعة جيلا بعد جيل في لغته وكل اللغات التي ترجم إليها، وذلك لفرادة رؤاه وأفكاره ومعالجاته للقضايا الإنسانية وتشكيلاته الفنية والجمالية، وهذا الكتاب الرائع “أشهر 30 خرافة عن شكسبير” للناقدين المسرحيتين لوري ماجواير وإيما سميث، لا يستكشف فقط الـ 30 خرافة الشائعة حول هذا الكاتِب العظيم ولكن أيضا يُفَنِّدها من منظور جديد، ويناقش الإشكاليات الكبرى التي تداعِب خيالَ الكثيرين حول شكسبير ومسرحه ونصوصه، وذلك عبر سلسلة من المقالات القصيرة التي تمس أبرز اهتمامات الدراسات الأكاديمية حول شخصيته التاريخية الكاريزمية العَصِيَّة على الفهم.
من بين الخرافات الثلاثين التي فندتها المؤلفتان: كان شكسبير أكثر كُتَّاب عصره شعبية، لم يكن شكسبير متعلمًا تعليمًا جيدًا، لم يكن شكسبير مهتمًّا بأن تُطْبَع مسرحياته، مسرحيات شكسبير غير لائقة سياسيا، كان شكسبير كاثوليكيًّا، شكسبير كان يكره زوجته، لو كان شكسبير يؤلف في عصرنا، لكانت هوليوود قبلة لأعماله، سونيتات شكسبير كانت متعلقة بسيرة حياته، شكسبير لم يكتب أعمال شكسبير، الملكة إليزابيث أحبت مسرحيات شكسبير، جمجمة يوريك كانت حقيقية، لعب ممثلون صبية أدوارَ النساء، شكسبير لم يُنَقِّح مسرحياته، مسرحية “ماكبث” منحوسة على خشبة المسرح، شكسبير كان سارقا.
الكتاب الذي ترجمه أحمد محمد الروبي وراجعه جلال الدين عز الدين علي وصدر عن مؤسسة هنداوي، يحاول وفقا لمؤلفتيه التحقق من الأمور التي نعتقد أننا نعرفها عن شكسبير، وهذا البناء المعرفي نطلق عليه اسم “خرافات”. لماذا “خرافات”؟ يُعزى استخدامنا لهذا المصطلح فيما يتعلق بالمحتوى الشكسبيري في كل فصل من فصول الكتاب إلى أن “الخرافة” هي التي تسبق فعل الحَكي؛ لأنها تُبرز العمل الثقافي الذي تؤديه هذه الحكايات وليس دقتها؛ لأنها لا تتعلق بنقطة جوهرية محددة، وإنما تتعلق بالمعتقدات المقبولة؛ لأنها تتعلق بالأشخاص الذين يقبلون هذه الحكايات أو يختلقونها أو يحتاجون إليها، بقدر ما تتعلق بالحكايات نفسها. ليست خرافاتنا كلها بعيدة عن الصحة؛ وإذ نسمي هذه المعتقدات “خرافات” فإن ما يهمنا بالقدر الأكبر ليس وصمها بأنها خرقاء وغير مؤكدة، وإنما أن نفهم كيف أصبحت تلك الخرافات جامدة، وتعوق تفسيرنا أعمال شكسبير بدلًا من أن تيسره.
وتضيف المؤلفتان في مقدمتهما للكتاب أن “الخرافات التي تحوم حول شكسبير زاخرة. ويرجع ذلك، جزئيا، إلى الدراسات الأكاديمية شبه المنسية أو التي عفا عليها الزمن من أيام الدراسة، ولأن شكسبير الإنسان هو بمنزلة ملكية ثقافية كاريزمية محيرة، ولأن المداخلات في دراسات شكسبير، ولا سيما البيوغرافية والمسرحية منها، تتصدر عناوين الأخبار: انظر خرافة “مسألة التأليف”، أو خرافتي التخمينات المتعلقة بمعتقدات شكسبير أو ميوله الجنسية.. ببساطة، تُحْكَى الخرافات مرارا وتكرارا عن شكسبير؛ لأنه ما من مؤلف في العالم أجمع أهم منه: شهدت ألمانيا في القرن التاسع عشر نقدًا أكاديميًّا مزدهرًا لشكسبير قبل إنجلترا،وأقامت الهند جمعية معنية بشكسبير، متقدمةً بذلك على إنكلترا. وكثيرًا ما تُعرض مسرحيات شكسبير على مستويَيِ الهواة والمحترفين على حد سواء، مُترجَمةً في شتى بقاع العالم. وشكسبير ليس إنجليزيًّا وحسب (تشهد على ذلك العبارة الألمانية “شكسبيرنا”).
ولذا فإن الخرافات المحيطة بشكسبير تَشِي لنا، نوعًا ما، بقصص عن أنفسنا، وكما تُفَصِّل أرمكارين أرمسترونغ في كتابه “تاريخ موجز للخرافة”، يمكن أن تكون الخرافات خيالية، أو تنطوي على مغالطة ـ وكثير من الخرافات عن شكسبير كذلك، لكن ليس كلها ـ لكن يتضح على أغلب الظن، بطرق مهمة وكاشفة، أنها تَتَّبِع تعريفين مرتبطين لكلمة “خرافة” من قاموس أكسفورد للغة الإنكليزية؛ الأول:قصة تقليدية تتضمن، عادة، كائنات أو قوًى خارقة للطبيعة، تُجسد وتقدم تفسيرا أو تعليلا أو: تبريرًا لشيء من قبيل التاريخ المبكر لمجتمع ما، أو لطقس أو معتقد ديني، أو لظاهرة طبيعية.
وترى لوري وإيما أنه رغم أن شكسبير ليس كائنًا خارقًا للطبيعة؛ فكثير من الخرافات التي نناقشها تفسر، أو تبرر، معتقدات معتنَقة على نطاق واسع، وغير مطروقة غالبًا، عن الفن والتأليف والقيمة الثقافية. التعريف الثاني الوثيق الصلة للخرافة هو أنها: “تصور شعبي لشخص أو لشيء، يُغَالِي في الحقيقة، أو يُظْهِرها على نحوٍ مثالي”. وكثير من خرافاتنا تُطابق هذا التعريف؛ فهي شعبية، وغالبًا ما تُرِدِّد أفكارًا ربما كان لها أساس في الواقع، ولكنها تُغالِي في تأكيد الدليل المُتاح، أو تتبنى التخمين لسد الفجوات في السِّجِل الوثائقي. إن الجواب الصادق عادةً لأسئلتنا عن شكسبير يجب أن يكون أننا لسنا واثقين، وبدلًا من هذا الشك، تقدم الخرافات “حقائق” مريحة وإيجابية حول الموضوع. وهنا نَنْزِع هذا الغطاء المريح، ولو أن النتيجة المثيرة للقلق أحيانًا تتمثل بأن معارفنا أقل مما ظنناها.
وتكشفان أن فكرة الكتاب انبثقت من الاهتمام بكتاب ذي صلة في مجال مختلف: “أشهر 50 خرافة في علم النفس” (2009).
يتضمن هذا الكتاب مقولات مألوفة، من قبيل: الأضداد تتجاذب ـ إننا لا نستخدم سوى 10٪ من قوة عقولنا ـ عزف مقطوعات موتسارت للأطفال يُعزِّز من ذكائهم – التعبير عن الغضب أفضل من كَبْتِه. هذه خرافات أمست حقائق تقليدية، والواقع أنها اكتسبت مكانة الأقوال المأثورة، كما تُدَلِّل على ذلك عناوين الفصول الساخرة. ويشير العنوان الفرعي للكتاب “دحض المفاهيم الخاطئة المتفشية عن السلوك البشري” إلى غرضه؛ فهو كتاب مُبدِّد للخرافات. ويقول المؤلفون مفسرين: “في هذا الكتاب، سنساعدك على التمييز بين الحقيقة والخيال في علم النفس الشعبي، وسنمدُّك بمجموعة من مهارات تبديد الخرافات لتقويم المزاعم النفسانية تقويمًا علميًّا”. وقد تساءلنا: ما الخرافات المُقابلة التي تسكن الفهم الشعبي لشكسبير؟.
وتضيف لوري وإيما “ثمة كتاب يُناقِش هذه المسألة موجود بالفعل، ألا وهو كتاب ستانلي ويلز: “أصحيح ما يقولونه عن شكسبير؟”. يستغل ويلز معرفته الموسوعية بشكسبير في هذا الكتاب لمناقشة 89 خرافة عن حياته وتأليفه. ويبحث المؤلف ما إذا كان شكسبير “تزوج على غير رغبته”، أو أنه “كان شاذًّا جنسيًّا”، أو “مات متأثرًا بمرض الزهري”، أو “ألَّفَ مسرحية بعنوان كاردينيو”، أو “كان يُصَوِّر نفسه بشخصية بروسبيرو”، أو كان “يستخدم حصيلة مفردات هائلة”. وشأنه شأن كِتاب “أشهر 50 خرافة في علم النفس”، يُعد كتاب ويلز مُفَنِّدًا للخرافات. يحقق ويلز في صنوف الخرافات ببراعة شديدة، ويختتم كل فصل بحُكم: “من المستبعد”، و”ربما”، و”ما زلت مرتابًا”. وعلى الرغم من أننا نبحث العديد من الصنوف عينها التي درسها ويلز، فبحثنا لها لا ينبع من اختلافنا مع ما انتهى إليه من نتائج، ولكن من اهتمامنا بأمور مختلفة؛ فعندما نبحث مسألة ما إذا “كان شكسبير أكثر مؤلفي عصره شعبية”، مثلًا، فإننا نهتم بالسؤال المُثبِّط المَعْنِيِّ بكيف يمكن للمرء أن “يبدأ” تقييم مثل هذه المقولة، وأين يمكن أن يبحث عن دليل لدعمها أو لدَحْضها، وما الذي يُمثِّل “دليلًا” في واقع الأمر (عدد النسخ المطبوعة؟ الطبعات المُعادة؟ الإشارات إلى شكسبير؟ حضور الجماهير؟)، ولا يعنينا الوصول إلى استنتاج بالإيجاب أو النفي.
عدد المقالات التي يحويها الكتاب 30 مقالًا، يطرح كل منها معالجات موثوقًا بها وحديثة وموضوعية للنقاط الجدلية والخلافات الأكاديمية. وتوضح المؤلفتان “منهجنا في الكتاب استقصائي وليس وصفيًّا؛ فاهتمامنا ينحصر في تقويم الدليل الذي يُقِيمُه كل طرف من طرفي الخلاف، والنظر في كيفية إقامة الحجة في كل الحالات. وتَعنينا اللحظات التاريخية التي تَتَجَمَّد عندها التخمينات المبدئية، فتتحول إلى حقائق بدهية. والأهم من ذلك أننا نحاول أيضًا فهم جاذبية الخرافات، وقدرتها على استقطاب أنصار متحيزين بشَغَف.
يقيِّم الكتاب الدليل المؤيد للخرافات والدليل المعارض لها، لا ليُبَيِّن وحسب كيف يمكن تفسير المادة التاريخية ـ وغيابها ـ وإساءة تفسيرها، ولكن ليبين أيضًا ما تكشفه تلك العمليات حِيال استثمارنا الشخصي في تلك القصص التي نَقُصُّها عن شاعرنا القومي (والعالمي). بالتأكيد لا نحاول أن نَحُوم، مدعين التحلي بمعرفةٍ كلية، فوق تلك القصص؛ فنحن مُتورطون مثل كل قراء شكسبير في طرح فرضيات مُسْبَقة، وحينما نحاول فهم تلك الخرافات، فلربما ننشر حينئذٍ بعض الخرافات الأخرى. ونحن مُمْتَنُّون للقارئ المجهول بمؤسسة وايلي-بلاكويل الذي سَلَّطَ الضوء على عدد من تلك اللحظات المتناقضة، وحَمَلَنا على الإقرار ـ بمباشرةٍ أكبر ـ بمواقفنا.
وتلفتان إلى إن كتابهما “يَحْمِل في طَيَّاتِه إغْواءَ التركيز على سيرة حياة شكسبير؛ فسيرة حياته حافلة بالخرافات، بدايةً من قصة الصيد الجائر للغزلان في شبابه (التي وصفها نيكولاس رو في بداية القرن الثامن عشر)، مرورًا بتفاصيل زواجه (المُثْبَتَة في السجلات)، وصولًا إلى السنوات الضائعة (التي لم تُوَثَّق في أي مكان). ضمَّنَّا بعض هذه الأمثلة بالطبع، لكننا حاولنا، حيثما استطعنا، الانتقال بالنقاش إلى المسرحيات والقصائد عينها. وبينما ينطوي أغلب خرافاتنا على طبقات من التراكم التفسيري بيننا وبين الحقبة الإليزابيثية، فإن الاطلاع على أعمال شكسبير نفسها يمكن أن يختصر الطريق، متجاوزًا بعض هذا الحشو السردي. ولكننا نجد القليل من اليقينيات في تحليل كلمات شكسبير أيضًا. ولا يسعنا أن نعرف، أبدًا، إلى أي مدى كان طاقم تمثيل شكسبير واقعيًّا في أدائه، مثلا؛ لأن الواقعية مفهوم نسبي. ولا يسعنا توصيف تجربة مشاهدة مسرحية “الليلة الثانية عشرة” عام 1601، لكننا نستطيع اقتراح سُبُل تمنحنا من خلالها إنتاجات أحدث وأوثق مدخلًا إلى بعض احتمالات الأداء فيها. وبإعادة أعمال شكسبير ـ لا معتقداته الشخصية أو حياته الخاصة ـ إلى سياقها، باعتبار أن هذه الأعمال هي المنطقة الأكثر إثمارًا وإثارة للعديد من التفسيرات، فإننا نحاول اقتراح بعض السبل التي يَلتقي بها الانفتاحُ على مَعانٍ مختلفة وتلك النصوص المعقدة وفقًا لشروطها الخاصة.لقد تخيلنا كل خرافة على هيئة قصة مستقلة بذاتها، حتى بعد أن حاولنا الحد من التكرارات قدر المستطاع. وإقرارًا منا بأن النثر الأكاديمي المُنَمَّق غالبًا ما يَطْمِس بقدر ما يُوَضِّح، فقد حاولنا أن نقدم المادة بما يُلائِمها من أسلوب سَلِس، وألا نَتَعَثَّرَ في شبكة من الإحالات المرجعية. ونقدم للقارئ قراءات مقترحة مُوسَّعة ومُوَجَّهة بنهاية الكتاب، لمزيد من الاستقصاء.
وتقولان “انصبت عنايتنا على كيفية تشكيل المعنى التفسيري وإعادة تشكيله، وكيفية استخدام الدليل عينه بطرق عدة، واستثمارنا في القصص التي نقصها، وكيفية نشأة تلك القصص أو الخرافات، والجاذبية التي تمارسها على الناس، وماهية الدليل الذي يمكن استخدامه لدحضها أو تأكيدها. ولعل الخرافة الكبرى، مع ذلك، هي خرافة يخلدها كتابنا أيضًا ـ فيما خلا في هذا الإنذار الأخير.
من الممكن غالبًا أن تحل الخرافات المحيطة بشكسبير محل نصوصه نفسها؛ ففي القرن التاسع عشر مَيَّزَ هازليت بين نصوص شكسبير والتعليقات عليها قائلًا: “إن أردنا أن نعرف قوة العبقرية البشرية فعلينا قراءة شكسبير. وإن شئنا أن نرى تفاهة التعلم البشري، فربما علينا دراسة التعليقات على أعماله”.
إن ازدواجيته متطرفة ـ العبقرية في مقابل التفاهة ـ لكن مبدأه العام سليم: لا يوجد بديل للمعرفة الوثيقة بالنص. ولقد صَدَّرَ هيمنج وكوندل طبعتهما المُجَمَّعَة للمسرحيات عام 1623 بأمر صريح: “اقرءوها مرارًا وتكرارًا”. وبعدها بأربعمئة عام، من الصعب أن نجد نصيحة أكثر سدادًا.