ليبيا بعد سوريا ساحة استراتيجية لتركيا وإردوغان
لم يتأخّر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في الحديث عن احتمالات إرسال قوات تركية إلى ليبيا للدفاع عن العاصمة طرابلس، مُهدِّداً بالتدخّل لمنع أيّ عمل بحري داخل المجالات البحرية التي حدَّدها الاتفاق التركي- الليبي.
يأتي هذا التطور بعد أسبوع من توقيع الاتفاق المذكور مع رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني المُعترَف بها دولياً فايز السرّاج، والذي أثار ردود فعل جميع الأطراف الإقليمية والدولية المعنية به. ويهدف الاتفاق إلى تعاون تركي ليبي في المجالين البحري والعسكري.
إردوغان قال إنه سيبحث الموضوع هاتفياً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في وقت كان وزير دفاعه خلوصي آكار يتباحث فيه مع نظيره الروسي سيرغي شويغو، إذ أن روسيا تدعم في ليبيا قوات خليفة حفتر، إلى جانب الإمارات ومصر والسعودية، أعداء إردوغان في المنطقة.
تصريحات إردوغان حول ليبيا قد تحمل في طيّاتها الكثير من المعاني مع بروز الدور التركي العسكري ومعه القطري في ليبيا، حيث بات واضحاً أنها ستتحوَّل إلى منطقة صراعٍ جديدة يريد لها إردوغان أن تساعده في تحقيق أهدافه الإقليمية والدولية. كيف؟
من خلال حصوله على موطئ قدم في هذا البلد الذي يُطلّ على البحر الأبيض المتوسّط عبر نافذة تتجاوز مساحتها أكثر من 1770 كم، وهي مساحة ذات أهمية استراتيجية بالغة بكل المُعطيات، بما فيها الهجرة غير الشرعية ورقة إردوغان التي قد يساوم بها أوروبا كما يفعل بورقة اللاجئين السوريين.
ويُفسّر ذلك دعم حكومة الوفاق من قبل إيطاليا، المحتل السابق، وبريطانيا، التي كانت لها قواعد في ليبيا قبل عام 1969، مقابل دعم روسي وفرنسي للمشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي.
ويبدو واضحاً أن تحرّك إردوغان في ليبيا يحمل في طيّاته حسابات تركية لها علاقة بمشاريع أنقرة الإقليمية والإفريقية، بما في ذلك دعم التحرّكات التركية في إفريقيا والرهان على ورقة الإخوان المسلمين في تونس والجزائر ومصر التي تحدّ ليبيا، وفي السودان وموريتانيا أيضا.
هذا الأمر يجعل وسيجعل من ليبيا التي دخلها العثمانيون عام 1551 ساحة استراتيجية بالنسبة إلى إردوغان لا تقلّ أهمية عن الساحة السورية التي عاد إلى لهجته التقليدية فيها.
إردوغان كرَّر خلال الأيام القليلة الماضية خطاباته التقليدية وقال إن تركيا لن ينسحب من سوريا إلا إذا طلب الشعب السوري ذلك منهم، وإن أنقرة بدأت بنقل مليون لاجئ إلى المناطق التي يتواجد فيها الجيش التركي شرقي الفرات، “وتركيا لن تنسحب منها إلا بعد القضاء على الإرهابيين”.
كتسبت هذه التصريحات أهمية إضافية لأنها جاءت بعد تعيين مسؤولين أتراك مدنيين وعسكريين وأمنيين لإدارة شؤون مدينتيّ رأس العين وتل أبيض، وهو ما اعتبره المُحلّلون تكراراً لتجربة غرب الفرات حيث يتواجد الجيش التركي هناك منذ آب/أغسطس 2016 بالتعاون مع عشرات الآلاف من عناصر الفصائل المختلفة التي جمعتها أنقرة تحت عنوان “الجيش الوطني السوري”، وهو ليس سوى أداة الدولة التركية لتطبيق مُخطّطاتها في سوريا حسب رأي العديد من المُحلّلين الأتراك الذين أشاروا أكثر من مرة إلى تناقُضات إردوغان الذي يتحدَّث عن التزامه وحدة وسيادة واستقلال سوريا، لكنه يحتضن كافة أشكال المعارضة، السياسية منها والمُسلّحة، بما فيها عشرات الآلاف من عناصر “الجيش الوطني” مع عائلاتهم.
دفع ذلك إبراهيم قالين مُستشار الرئيس إردوغان إلى القول “إن تركيا تساعد 7 ملايين سوري”، ويقصد بذلك 3،5 ملايين موجودين في تركيا والباقي في المناطق التي هي تحت سيطرة الجيش التركي، مع تأكيدات مُتتالية من مسؤولين أتراك على “ضرورة مُشاركة كل السوريين في الخارج في أية عملية انتخابية سورية تحت إشراف دولي”، بموازاة رفض إردوغان لإعادة اللاجئين إلى بلادهم “حتى لا يُقتلوا بالبراميل المُتفجِّرة”.
ويرى مراقبون في هذه التصريحات تكتيكاً من إردوغان لكسب المزيد من الوقت بعد أن بات واضحاً أنه يستعدّ الآن لمُساومة جديدة مع بوتين في ليبيا، وهذه المرة أيضاً على حساب سوريا.
فالجميع يعرف أن إردوغان يعترض على أيّ عمل عسكري سوري في إدلب رغم الضغوط الروسية. ويتوقّع البعض أن تخفّ هذه الضغوط أو تنتهي تبعاً لما سيتّفق عليه إردوغان مع بوتين في موضوع ليبيا، التي قد يكون التدخّل التركي فيها كافياً لجرّها إلى مستنقعٍ خطير كما هو الحال في سوريا.
هذا الاحتمال دفع بعض المُحلِّلين إلى اتّهام إردوغان بجرّ تركيا إلى مُغامراتٍ جديدةٍ في المنطقة بعد تواجده العسكري في العراق وسوريا وقطر والصومال، والآن في ليبيا، إضافة إلى أدوارٍ مباشرة وغير مباشرة، ومنها العلنية والسرّية، في دولٍ أخرى ومنها لبنان وتونس والسودان.
ولا يتجاهل أحد العلاقة المباشرة بين الوضع الداخلي في تركيا والتصعيد خارجياً بعد أن توقّعت كل المُعطيات حرباً طاحِنة بين إردوغان والثلاثي عبدالله غول وأحمد داود أوغلو وعلي باباجان. وسيحاول إردوغان التصدّي لهؤلاء عبر شعارات ومقولات أو مواقف عملية قومية ذات طابع ديني لن يستطيع أحد أن يعترض عليها طالما أن إردوغان يسيطر على 95% من الإعلام المرئي والمكتوب، والمحاكم كافية لإسكات ما تبقّى.
فلا يمكن لأحد أن يعترض على حرب إردوغان ضد الإرهابيين، ومقصود بهم وحدات حماية الشعب الكردية التي تعدّ امتداداً لحزب العمال الكردستاني، وكذلك تحدّياته لليونان وقبرص و”إسرائيل” وهي أعداء الأمّة والدولة التركية تاريخياً ودينياً.
سيكون كل ذلك كافياً بالنسبة إلى إردوغان حتى يعرقِل أو يمنع تحرّكات الثلاثي المذكور مع اقتراب موعد الإعلان عن الأحزاب الجديدة التي لن تستطيع إحراج إردوغان طالما أنه يقاتل الأعداء في الخارج.
ويبقى الرِهان على مدى قوّة هؤلاء الأعداء معاً أو على انفراد لإفشال مُخطّطات إردوغان بأسرع ما يمكن، لأن عامل الزمن لصالحه كما هي الحال عليه الآن في سوريا التي يعرف إردوغان أن مصيرها لن يتقرَّر إلا بضوء أخضر منه، كما دخلها بمثل هذا الضوء من الرئيس بوتين.
وستُحدِّد الساعات والأيام القليلة القادمة لون الضوء الروسي في ليبيا التي سبق وأن اعترف بوتين بخطئه فيها عندما صادَق على قرار التدخّل الغربي فيها في شباط/فبراير 2011.
سقط القذافي حليف روسيا الاستراتيجي في إفريقيا حيث تحاول موسكو اليوم العودة إليها بهدوء عبر القاهرة عدوّة إردوغان الذي يعدّ بدوره كما تركيا مهمين بالنسبة إلى روسيا وبوتين.
بوتين لديه الكثير مما يجب أن يكتبه في مذكّراته عن علاقاته “المُثيرة” مع إردوغان. فيا ترى أيّهما الأكثر حِنكة ومهارة في التكتيك والمُناورة؟
الميادين نت