ليست الأمور بقول برنار كما يجب
يعني إختراع لغة تحميل اللغة المستخدمة مجهودا إضافيا لا سابق له، وهو إنتماء الى مفهوم الغموض في الشعر، ولاشك أن هذا الغموض يأتي ضمن متطلبات نوعية لما يريد الشاعر تحقيقة من فهمه وإدراكه وحاجته لما تعني وظيفة الشعر.
تشير سوزان برنار في الفصل الرابع من كتابها “قصيدة النثر من بودلير ليومنا هذا”، الى المشتركات من جهة، واللاتقاربية من جهة أخرى بين أعمدة الحداثة الشعرية الثلاث (لوتريامون، رامبو، مالارميه) تلك اللاتقاربية بالرغم من وجود قاعدة إيصالية بينهم مفادها أن للشعر قواه الخلابة وقيمته الميتافيزيقية.
لقد واجه لوتريامون النظام الشعري وقوانينة والتي جعلت من المحال على الشاعر تجاوز المناطق الشكلية والتحول الى منطق العبث بالأشياء، وهنا ليست الأمور بقول برنار كما يجب أو كما يسميه مالارميه في البدء بأنه محاولة يائسة لتجاوز الأمكانات الطبيعية للغة وخصوصا أن الشريك الآخر – أي مالارميه – يعني الجمع بين اللغة الجوهرية القريبة من المطلق وحيثياتها الإنسانية.
إن مالارميه سلك طريقه الجديد واستطاع إقامة نظامه اللغوي والذي أنهى بموجبه ذلك الإتصال السائد ما بين اللغة الشاعرية والتي وصفها في بعدها الآخر بالتعتيمية والجوهرية مقابل اللغة (القديمة) التي أسماها لغة الأيام.
أما رامبو فمحنته هي البحث عن الوسائل، ولا بد من التساؤل عن تلك الوسائل التي تزيل عنه محنته وتنقله الى حريته ونعيمه بين أصداء الكلمات. ترى سوزان برنار أن الأمر لا يتعلق بقضية الإصالة، إنما يفكر رامبو كيف يجعل مجموعة من العميان يحسون ما يراه.
إن أدق عبارة لرامبو بهذا الشأن عن الوسائل هو كيفية الحفاظ على نقل الرسالة المحمولة من المجهول كاملة وغير ناقصة. الإجابة عن ذلك تشير اليها برنار في سؤالها “هل حقا توصل رامبو الى المجهول؟” وهي تدعو القارئ للولوج الى “الإشراقات” و”كيمياء الكلمة” والتي أتى اليها رامبو وخصوصا في كيمياء الكلمة من خلال عالمه المجهول حينما تعاطى الكحول والأفيون، ولربما أراد رامبو من ذلك أن يرى تجربته في تشويش الحواس ضمن حيزه الواقعي ليمارس طقس الرائي بما يملك من خيبة وجنون لتقطيع أوصال ذاته والعبث بها للسعي والوصول الى الخفايا الجوهرية.
تقول برنار عن ذلك إن قطع الصلة مع أي لغة شعرية معروفة تعد سلفاً علامة مميزة لظهور شكل فني محكم البناء وأداة تمرد فوضوي. إن الأعاجيب التي قدمتها الإختراعات قابلتها المجتمعات بالحيطة والحذر أول الأمر أو قابلتها بتأثير الصدمة من رؤيا كتلة حديدية ترتفع في الهواء أو رؤيا باخرة عملاقة أو سماع صوت عبر الهاتف، وأشكال سحرية من الإكتشافات أخرى بدأت تعصف بالماضي ليترتب الحاضر وتتنقل هذه التطورات بالإنسان من فكر لآخر، ومن سرعة محددة في التفكير الى سرعة قياسية إنسجاما مع ما حدث واستعدادا لقبول الجديد المذهل.
إذن هي ليست بريح مألوفة هبت على القارة الأوروبية بل العالم بأسره بل هي عاصفة هزت القديم وخلعت عنه ستار عريه ليبحث من يبحث ولينسجم من ينسجم مع هذه المعطيات التي بدأت أكثر إصرارا على صعيد الأدب والفن.
كانت الأمور في البدء ليست كما يجب لكن الفترة من 1913- 1930 كانت البداية لوجوب رؤيا لقادم جديد ضمن منظور جديد للحياة ومتطلبات الإنسان الروحية وتترسخ في الأذهان التوجهات الجديدة نحو الحداثة الشعرية بظل رواد الربط الثلاثة (مالارميه – رامبو – لاتريامون) مستندين على تراث المفصل الأهم في هذا التحول على ما قدم تنظيرا وشعرا الأب الروحي لحركة الحداثة الشعرية الشاعر شارل بودلير.
ميدل ايست أونلاين