«مأوى الغياب» لمنصورة عز الدين… استنزاف بنية النص
تتضاعف الفضاءات التصويرية، والعلامات في المتوالية القصصية «مأوى الغياب» (دار ممدوح عدوان، ودار سرد) للكاتبة المصرية منصورة عز الدين، فالنص السردي هنا يستنزف بنيته الذاتية، وينتقل إلى الكتابة بمدلولها الواسع، ويحمل الإشارات إلى بكارة تشكل الكتابة الأولى في رمزية استعادة تحوت، ثم يحتفي بإشارات التحول، والصيرورة الإبداعية للعلامات في خطاب شخصية ربة الطلاسم، فالكتابة هنا تشبه ديناميكية الحياة، والآثار الجمالية للوجود، والغياب، من دون مركز.
تومئ الساردة إلى عالم تصويري افتراضي يجمع الكتاب، وبعض شخصياتهم الفنية، مثل بورخيس، وكافكا، وكالفينو، وكأن مثل هذه العوالم الجمالية الاستعارية، تمهد لتجاوز مدلول الخصوصية في الكتابة، وتنتقل إلى المستوى الكوني/ الجمالي في ما وراء الإدراك الذاتي للنفس، والعالم. وكأن هوية الساردة ستصير قيد لعبة حلمية في تداعيات الكتابة، واتساع مجالها الرمزي والتصويري في آن. وتذكرنا تلك العوالم الافتراضية الأولى بتضاعف النسخ في مكتبة بابل عند بورخيس، ومراوحتها بين المحدود، واللانهائي، أو السرمدي. وإن كان تضاعف العلامات عند منصورة عز الدين، يسعى إلى تفكيك بنية الغياب من داخل لعبة الكتابة، وصيرورتها، والتباسها السحري بالتشكيلات، والرموز التي يتداخل فيها الشخصي باللاشخصي والكوني. هل تبدو الكتابة هنا انشقاقاً مستمراً عن الأصل؟ أم عن مركزية تصور البدايات؟ إنها تبدو مثل لعبة أنثوية، تقوم على أخيلة المياه، ومقاومتها للتحديد، وهي تتجلى كتموجات من المجالات الاستعارية الجزئية المتداخلة المتجاوزة للغياب من جهة، أو كحفر مستمر للأثر الجمالي، يأتي مصحوباً بمتعة مستمرة لبدايات ذات نهايات مؤجلة. فمقاومة النهايات –في النص– تتجلى كرد فعل لعبثية التدمير، وآليته في المشهد الأرضي الصاخب، وكأن استراتيجية التحول التصويري تكمن في العمق الدلالي لبنية الغياب نفسها. ويقوم النص أيضاً على لعبة تداخل الأصوات، وتعدديتها بين أخيلة كل من الأنا والآخر، فحضور الأنا قد يبدو كأثر جمالي نسبي في وعي الآخر، وأخيلته، ومن ثم يؤكد النص النزوع ما بعد الحداثي لتجاوز بنية الذات، والتباسها بالصور الحلمية، وبأخيلة الآخر/ المحتمل. وتقوم الرؤية السيميوطيقية للعالم الافتراضي الجديد –عند منصورة عز الدين– على التأثير الجمالي التأويلي لتشكيل/ المثلث، وحدوده الغابة، والجبل، وبحر الأخيلة. وتبدو مثل هذه العلامات الثلاث كمحاكاة ساخرة ما بعد حداثية لصخب العالم، والتعالي الروحي الصوفي، والصيرورة الإبداعية للأخيلة التي تقع بين وعي الذات، وما يتجاوزها. فالجبل يقترن بفراغ إبداعي متعال، والغابة تشير إلى وجود صاخب تمثيلي، أما البحر فيبدو افتراضياً، ويقع بين الوعي، وأخيلة العالم، وتجدد الكتابة الأولى في صيرورة لا نهائية محتملة.
وتومئ عتبة العنوان إلى التعددية الدلالية لبنية الغياب، فالمأوى الافتراضي الذي اقترن بعوالم الكتاب الخيالية، صار فضاء تصويرياً صاخباً في عمق الغياب، وأخيلة التدمير، وقد يشير إلى تجاوز الذاتي في الصور التأويلية المتخيلة المقاومة لمركزية الهوية، وخصوصيتها، فقد رأى السارد نفسه طفلاً يلعب بين جدران متهدمة، أو رجلاً يحفر، ويسوي الأرض ثم يعاود الحفر في العوالم الحلمية، وقد يرتبط الغياب بصيرورة الدوال، والتشكيلات التصويرية قبل تشكل المعنى، وربما في تجاوز المعنى نفسه في وفرة الصور، ولامركزية تشكلها، واستحالة تحديدها، أو تأويلها.
وتذكرنا مثل هذه الإشارات إلى التجسدات التصويرية بتصور دريدا الواسع عن الكتابة الأولى، وتجاوزها لمدلول اللغة، إذ يرى أننا كنا نطلق كلمة لغة على الفعل، والحركة، والفكر، والوعي، واللاوعي، والخبرة، والانفعال، ولكن نميل الآن أن نطلق كلمة كتابة على هذا كله، وعلى أشياء أخرى، فثمة كتابة أبجدية، ورمزية، وتصويرية، وموسيقية، ونحتية، ويؤكد أن المدلول يؤدي وظيفة الدال، ويقع من جديد في لعبة الإحالات. تتجاوز الكتابة –عند دريدا إذاً– النسق اللغوي، وتميل إلى الأداء الذي يقع في قلب الوجود، وصيرورته التمثيلية الرمزية المحتملة، ونسخه التي تقع في لعبة الدوال.
يتشكل العالم الافتراضي الخيالي للسارد من تكوين المثلث الذي يقع بين العالم الداخلي، والمجال الكوني، ورمزيته، والعالم الفني الجمالي. يقول السارد: «لاحظت أنني في بقعة مثلثة الشكل، أحد أضلاعها يستند إلى جبل شاهق، والضلع الثاني يقود إلى غابة ممتدة، وحين وصلتُ إلى حافة الضلع الثالث، اكتشفت أنه يطل على بحر خيالاتي الهائج» ص 28. ثم يومئ السارد إلى صخب الغابة، وذاكرتها الحديدية الكونية، وأثرها الباقي كوشم النار فيمن يهتم بأمرها أو يتجاهلها، بينما بدا البحر داخلياً، أو كتأويل أنثوي للوجود، واقترن الجبل بالفراغ المتعالي الروحي. ويتجلى الفضاء السيميائي الافتراضي للمثلث – في المتوالية بصورة تجمع بين الكثافة الرمزية الكونية، والتأويل الإبداعي الخيالي، أو الاستعاري للعالم، فالمثلث ينفتح بصورة دائرية على الداخل، ويرمز إلى ما يستنزف الداخل نفسه باتجاه الكوني الفسيح، وباتجاه العمق الكامن في صيرورة الكتابة الأولى، وكأنه مثلث إبداعي يتشكل دائماً من تموجات المياه الخيالية، ومن صخب الفراغ، وأطياف الفن.
هكذا تتضمن رمزية المثلث –عند كاندنسكي– ديناميكية، وتناقضاً إبداعياً داخلياً، وهو ما يؤكد تأويلاته المائية الخيالية عند منصورة عز الدين، وهو –في المتوالية– يجمع بين الاتساع الكوني، والرمزية المجردة التي تستعصي على التحديد، والاختزال.
يبدو الكون كله مائياً في وعي السارد، ويتداخل في تموجاته الجسد، والفراغ، والعلامات الكونية، ويذكرنا بطاقة الأنيما الأنثوية عند باشلار، إذ يشير في شاعرية أحلام اليقظة إلى نفورها من الحوادث، واتصالها بالتأملات الشاردة للمياه بخاصة. يربط باشلار إذاً بين طاقة التأملات في حلم اليقظة، وأخيلة المياه الأنثوية، وسنجد أن التأملات الإبداعية الشاردة في كتابة منصورة عز الدين صارت تحمل صخب الصيرورة الكونية، وتضاعفها الاستعاري المحتمل بين الفضاءات الداخلية، ودينامية مفاهيم الوجود، والحياة، والموت، والغياب، والانتشار الإبداعي المستمر للعلامات، والأصوات، والشخصيات الفنية معاً، فالكون أصبح مجموعة تموجات تقاوم التحديد الزماني، وتعيد تشكيله فنياً، ويؤكد هذا التصور توحد المجالات التشكيلية بين السارد، والتجسد الجمالي لتصميم القلعة، إذ شعر بدهاليزها، ونوافذها في عالمه الداخلي، لقد صار تكوين الذات سوريالياً مرناً، أو صار كتأمل في حلم يقظة استبدالي، ومن ثم صار الجسد نوعاً من الكتابة التشكيلية التصويرية المعمارية، فالتجسد يموج كمادة قيد التحول الإبداعي المستمر.
تقوم متوالية «مأوى الغياب» على مواصلة التجريب في بنية الصوت السردي، وفي تعددية الخطاب، وتداخلاته بين الشخصيات التي تقع بين عالمي الأنا، والآخر، كما يرتكز الخطاب على التجريب في التبئير الداخلي المتنوع وفق تعبير جينيت، إذ نعاين مجموعة من الأصوات التي تتصل بأصوات أخرى مكملة، أو مخيلة لأساطير، أو شخصيات إبداعية وليدة الرؤى الإنتاجية في تداعيات الكتابة، مثل صوت سارد/ كاتب يعايش عوالم افتراضية للنصوص، والكتاب، وصوت الأنثى التي تعاين عبثية التدمير، وبزوغ عوالم الكتابة الاستعارية في المشهد الكوني، ونعاين صوتا تمثيلياً متخيلاً لـ «تحوت»، أو إعادة تشكيل لصوته الاستعاري في زمن آخر، ثم يتجلى صوت «ربة الطلاسم» التي تبدو مكملاً مختلفاً لـ «تحوت»، ويرتكز خطابها على الصيرورة الإبداعية للدوال، وتجاوز المنطق المحدود، والانفتاح على معرفة غنوصية مثلما تحدثت عن رؤيتها لذاتيتها التي تقع بين الأسطورة، وتحولات الكتابة، وانشقاقها المستمر عن المدلول الأول، باتجاه انفتاح الصور، والتأملات التصويرية.
صحيفة الحياة اللندنية