ما السر وراء سياسة روسيا والصين الناعمة تجاه طالبان؟
منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن انسحاب بلاده من أفغانستان بعد 20 سنة من الاحتلال العسكري، بدأت حركة طالبان حملة انتشار للسيطرة على كبرى المدن الأفغانية، وصولًا إلى العاصمة كابول، فقد دخلت الحركة العاصمة أمس الأحد وسيطرت على القصر الرئاسي، بعد مغادرة الرئيس الأفغاني أشرف غني للبلاد، هذا بالإضافة إلى سيطرتها على العديد من المدن الكبرى والمعابر الحدودية ومواقع إستراتيجية، دون مواجهة عسكرية تذكر.
وكانت حكومة طالبان والولايات المتحدة الأمريكية قد وقّعتا «اتفاقية الدوحة» في فبراير (شباط) 2020 التي تنظّم عملية خروج القوات الأمريكية من أفغانستان بعد 20 سنة من احتلالها البلاد، وذلك مقابل تعهّد الحركة بألا تستخدم الأراضي الأفغانية مُنطلقًا لهجمات ضد الولايات المتحدة وحلفائها.
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان جعل غريمتيْها التقليديّتين: روسيا والصين، تعيدان ترتيب علاقتهما مع تنظيم طالبان، وتحضّران أوراقهما من أجل انخراط أكبر في الساحة الأفغانية، الشيء الذي عجزا عن فعله سابقًا بسبب الاحتكار الأمريكي للساحة الأفغانية، في ظلّ وجود قوّات «حلف الناتو» هناك، وحكومة أفغانية موالية بشكل تام للأمريكيين.
اللقاء الذي جرى على أعلى مستوى بين وزير الخارجية الصيني ونائب رئيس حركة طالبان الملا عبد الغني برادر، يمثّل قفزة نوعية للحركة من حيث الاعتراف الدولي؛ إذ وصفت الصين الحركة بأنها «لاعب محوري مهم» في أفغانستان، ودعتها إلى المشاركة الفعالة في محادثات السلام مع الحكومة الأفغانية.
ويشير اللقاء بين وزير الخارجية الصيني وممثلين عن حركة طالبان، إلى إستراتيجية صينية لاحتواء الحركة، وبناء علاقات سياسية معها، خصوصًا في ظلّ سيطرة طالبان على العديد من المحافظات الأفغانية، ويعدّ هذا هو اللقاء الثاني عالي المستوى بين الطرفين، بعد لقاء جمعهما سنة 2019. وقد صرّحت وزارة الخارجية الصينية، عقب دخول الحركة إلى العاصمة كابول بأن الوضع في أفغانستان «يشهد تغيرات كبيرة، ونحن نحترم رغبات الشعب الأفغاني وخياراته» كما عبّرت عن استعدادها لإقامة «علاقات وديّة» مع الحركة.
وكانت طالبان قد طمأنت الصين بأن أفغانستان لن تشكّل قاعدة للهجوم عليها، أما روسيا فقد رعت محادثات سلام بين طالبان والحكومة الأفغانية في مارس (آذار) الماضي، وصرّحت أيضًا بأن الحركة «لا تشكّل تهديدًا لآسيا الوسطى».
المحادثات الروسية مع الحركة بدأت بصورة غير رسمية منذ عدّة سنوات، وكان أبرز محطاتها اللقاء الذي تداولته تقارير صحافية بين الرئيس الروسي بوتين وزعيم حركة طالبان الملا أختر منصور، سنة 2015 من أجل حضّ الحركة على قتال «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)»، وكانت صحف أمريكية قد نشرت خبرًا مثيرًا للجدل أيضًا عن أن الاستخبارات الأمريكية تخمن بأن روسية حفزت مقاتلي طالبان ماليًا في حال استهدافهم للجنود الأمريكيين في أفغانستان، لكن البيت الأبيض قد عاد مؤخرًا وأعلن أنه لا يثق في هذه المزاعم، وأنه لا توجد أدلة قوية عليها، وقد احتضنت قطر مؤخرًا محادثات بين ممثّلين عن الحركة من جهة، وممثلين عن حكومات روسيا، وأوزباكستان، وتركمانستان.
جدير بالذكر أن روسيا قد أعلنت صراحة أنها لن تجلي سفارتها في كابول؛ إذ لا خطر من سيطرة طالبان على السلطة، وهو ما يشير إلى السياسة الناعمة التي تنتهجها روسيا تحديدًا تجاه سيطرة طالبان على مجريات الأمور في أفغانستان.
تقارب مع طالبان لصدّ النفوذ الأمريكي
التقارب الصيني مع حركة طالبان يأتي في سياق «الحرب الباردة» بين الصين والولايات المتحدة؛ إذ ينظر الصينيون إلى أفغانستان باعتبارها جبهة متقدّمة لهذا الصراع، خصوصًا أنّ القوّات الأمريكية تتواجد على بُعد كيلومترات عن الحدود الأفغانية الصينية.
ويرى الباحثان جانكا أورتيل وأندرو سمول من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» أن القلق الصيني من الوجود الأمريكي في أفغانستان ينبع بصفة رئيسة من نظرة جيوستراتيجية حول الصراع الأمريكي الصيني، إذ إن أفغانستان تملك حدودًا مع الصين يبلغ طولها حولي 74 كيلومترًا، وتحظى بأهمية إستراتيجية بالغة باعتبار أنها ممرّ للسلع الصينية نحو الشرق الأوسط، ومن خلالها يُنقل الغاز والنفط من إيران.
كما أن وجود قوّات أمريكية على الحدود الغربية للصين مدعاة للتأهبّ العسكري الصيني، تمامًا مثلما كانت ترى الصين في التواجد السوفياتي في أفغانستان مدعاة للقلق من التمدّد الروسي في آسيا خلال حقبة الثمانينات.
مقاتل من حركة طالبان
روسيا هي الأخرى كانت منزعجة من الوجود الأمريكي في أفغانستان طوال العشرين سنة الماضية، خصوصًا أن ذلك يعرقل توسّعها في آسيا الوسطى، إذ إن أفغانستان تملك حدودًا مع كل من أوزباكستان، وطاجكستان، وتركمانستان، وهي جمهوريات سوفياتية سابقة، وتملك روسيا نفوذًا مهمًا فيها.
وترى روسيا في الخروج الأمريكي من أفغانستان، تشابهات عدّة مع خروج الاتحاد السوفيتي «المذلّ» منها، والذي جرى بدعم أمريكي واسع للمقاتلين الأفغان، وكانت روسيا قد رعت محادثات سلام بين حركة طالبان وحكومة أشرف غني في مارس الماضي، والتي نصّت على حكومة انتقالية تقتسم بموجبها الحركة والحكومة الحالية السلطة.
أحد أسباب التقارب الروسي مع حركة طالبان كان رغبة روسيا في التخلّص من الحكومة الأفغانية المدعومة أمريكيًا والمتواجدة في باحتها الخلفية، بالإضافة إلى تعويل روسيا على الحركة من أجل كبح نشاط الحركات الجهادية المنافِسة التي قد تستهدفها.
سياسة احتواء الحركة هذه تأتي بعد مدّ وجزر بين الطرفين إذ إن موسكو كانت أحد أهم مورّدي الأسلحة للحكومة الأفغانية ضد طالبان منذ أواخر التسعينات. ورغم هذا الاهتمام بالساحة الأفغانية، فإن روسيا لا ترغب في الغرق مرة أخرى في المستنقع الأفغاني كما حدث في ثمنانينات القرن الماضي، عوض ذلك، فإنها ترغب في تحسين علاقتها مع الحركة الأكثر قدرة على حسم الصراع الدائر بين في الداخل الأفغاني، خصوصًا مع الانهيار الشامل الذي شهدته الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة الأفغانية المدعومة أمريكيًا.
هل تتحوّل طالبان إلى «شرطي» يحمي الأمن الروسي والصيني؟
وترى روسيا أن سيطرة حركة طالبان على السلطة في أفغانستان، من شأنها القضاء على تهديد الحركات الجهادية الأخرى، مثل تنظيم «داعش» و»القاعدة»، وهو ما تعهّدت به من خلال «اتفاق الدوحة» الذي نصّ على ألا تسمح طالبان بنشاط الحركات الجهادية داخل أراضيها كما أن وصولها إلى سدّة الحكم سيدفع الحركة إلى التعامل بـ»منطق الدولة» وتقييد نشاط الجماعات الجهادية الأخرى التي من شأنها تهديد أمن روسيا عبر حكومات آسيا الوسطى (طاجكستان، تركمانستان، أوزباكستان) بالتسلّل عبر حدودها الشماليّة، سواء للقيام بعمليات مسلّحة أو تهريب المخدّرات.
كما أن المسؤوليات الحكومية التي ستقع على عاتق حركة طالبان، من توفير الخدمات للشعب الأفغاني وإدارة شؤون الدولة، من شأنه ربما من وجهة نظر روسيا أن «يهذّب» الخطّ السياسي للحركة ويدفعها لاتخاذ مواقف أقلّ حديّة وأكثر تعاونًا مع المجتمع الدولي. خصوصًا مع حاجتها إلى الأموال في عملية إعادة الإعمار وإعادة بناء الدولة الأفغانية من جديد بعد الحرب الطاحنة التي استمرّت أكثر من عشرين عامًا.
أيضًا تعوّل روسيا على حركة طالبان في حال وصولها إلى السلطة، في معالجة مشكلة نبتة الأفيون المستخدمة في صناعة المخدّرات، والتي تصدّر أفغانستان 90% منه إلى روسيا وأوروبا، وتعرف روسيا وفاة 70 ألف قتيل سنويًا بسبب هذا المخدّر؛ ولذلك فإنها تعوّل على طالبان من أجل ضبط هذا التهديد، خصوصًا أن حكومة طالبان حين حكمت البلاد في تسعينات القرن الماضي كانت قد منعت زراعة الأفيون بصورة مطلقة تطبيقًا للشريعة الإسلامية.
أما الصين فتسعى إلى بناء علاقات مع تنظيم طالبان، وذلك من أجل ضمان ألا تتحوّل أفغانستان في ظلّ حكم الحركة الإسلامية إلى معقل لتنظيمات مسلّحة تُهدد أمن الصين، خصوصًا تلك المرتبطة بإقليم تشين جيانغ، كتنظيم «الحزب الإسلامي التركمانستاني» المرتبط بأقلية الإيغور المسلمة، والمضطهدة من طرف السلطات الصينية، وهو الإقليم الذي تقع ضمنه الحدود الأفغانية الصينية، وتسيطر حركة طالبان على الإقليم الحدودي داخل أفغانستان المسمى «ممرّ واخان».
الاهتمام الصيني الواسع بأفغانستان واستعدادها للعب دور أوسع داخل الساحة السياسية الأفغانية، خصوصًا مع انسحاب الأمريكيين، يصطدم مع خشية الصين في التورّط في المستنقع الأفغاني كما حدث مع الإدارة الأمريكية التي أنهت 20 سنة من الاحتلال العسكري كلّفت الولايات المتحدة حوالي تريليوني دولار أمريكي، لينتهي الأمر بإعلان الولايات المتحدة انسحابها دون القضاء على تنظيم طالبان، كما أن الأدبيات السياسية الصينية تتخوّف بشدة من الانخراط في «مقبرة الإمبراطوريات»، اللقب الذي يُطلق على أفغانستان بالنظر إلى الهزائم المتكرّرة التي حظيت بها جميع القوى الكبرى التي سعت للسيطرة على هذا البلد.
تنافس صيني روسي على «الكعكة الأفغانية»
ورغم وجود أطماع اقتصادية حقيقية في أفغانستان، والحديث الصيني عن انخراط أفغانستان في مشروع «طريق الحرير» الصيني، إلا أن الهاجس الأمني وغياب الاستقرار السياسي داخل أفغانستان جعل الصينيين يجمّدون المشاريع الاقتصادية بها، إذ إن كبرى المشاريع الصينية في أفغانستان بقيت مجمّدة، على غرار منجم النحاس في آيناك، الذي أعلنت الصين سنة 2007 استثمار 3 مليارات دولار لاستغلاله، بقي بدون استغلال بسبب الحالة الأمنية والسياسية غير المستقرّة.
وتتخوّف الصين من تكرار سيناريو الهجمات على المواطنين الصينيين كما يحدث في باكستان التي تعرف اعتداءات ضد العمّال الصينيين من طرف جماعات مسلّحة مثل «جيش تحرير بلوشستان». لكن أفغانستان ما زالت تمثّل بالنسبة للصين فرصًا اقتصادية وتجارية ضخمة، بالنظر إلى أنها غنيّة بالمعادن والثروات الطبيعية، في ظل وجود حدود مباشرة بين البلدين.
الرغبة الصينية والروسية في ملأ الفراغ الذي سيتركه الخروج الأمريكي من أفغانستان، لا يُلغي التنافس بين هذين القطبين العالميين، سواء من الناحية الاقتصادية، أو الجيوستراتيجية.
فرغم أن كلًا من الصين وروسيا يشتركان في السعي نحو استقرار أفغانستان، تحت سيطرة واضحة من أجل ضمان تحييد التهديدات الأمنية، المتمثّلة في الحركات المسلّحة التي قد تنتقل عبر الحدود إلى الصين أو عبر آسيا الوسطى تجاه روسيا؛ فإن هذا لا ينفي التنافس الاقتصادي على الكعكة الأفغانية، وأطماع الطرفين في الاستفادة من الثروات الطبيعية في أفغانستان.
فعين الصين تقع دائمًا على مناجم النحاس، بالإضافة إلى مخططها بعيد المدى لإدماج أفغانستان في طريق الحرير (مصدر)، أما روسيا فتقع عينها على مشاريع إعادة الإعمار، بالإضافة إلى مجال الطاقة؛ لكن كل هذه الطموحات مرتبطة بتطوّرات الوضع في الداخل الأفغاني، وباستعداد حركة طالبان للتعاون إلى هذا المدى مع هذه الأطراف الدولية.
يتسابق الروس والصينيون في الميدان الاقتصادي، لكنها يتسقان بكثافة في الميدان الأمني لمكافحة ما يرونه «الإرهاب» مع مراقبة دقيقة لتطوّر الأوضاع في أفغانستان، خشية انتقال العنف إلى دول وسط آسيا، وقد شارك 10 آلاف جندي من الجيشين الصيني والروسي في تدريبات مشتركة في الصين خلال شهر أغسطس (آب)، وذلك باستخدام الذخيرة الحية وسلاح الطيران والمدفعيات، كما من المتوقّع إجراء تدريبات مشتركة إضافية في سبتمبر (أيلول) المقبل، مع لقاءات على مستوى المسؤولين العسكريين والأمنيين للتنسيق المتواصل.