‘ما بعد الرؤية’ في القصة القصيرة
كان التصور القديم يرى التعارض بين العلم والأدب، لذلك تأسس مصطلح (الثقافتان) علي يد المفكر البريطاني سي . سنو في كتابه الصادر عام 1959، والمعنون “الثقافتان والثورة العلمية”. وأكد الباحث سامي خشبة: أن التطور الحادث في الفلسفة المعاصرة أكدت أن تكامل المثقف والإنسان عمومًا يحتم ليس فقط الإبقاء علي الثقافتين، بل السعي إلي إيجاد الجسور بينهما واكتشاف “وحدة الثقافة” نظريًا وتطبيقيًا رغم أنها تتعامل مع مجالات مختلفة من الوجود، والشعور، والفكر، والعمل.
أي أنه يمكن إرفاد فن المقاربة النقدية بمفاهيم علمية ناجزة، ومن رجال التكافل وتحقيق تلك المقاربة الروائي الطبيب حسام الزمبيلي، حيث صك لدى حديثه عن رواية “الشتاء الأسود” للروائي الشاب أحمد صلاح المهدي هذا المفهوم الذي يرتبط بطب العيون ببقاء الصورة ماثلة علي الشبكية عندما تمعن النظر ثم تغلق عينيك، بقوله: “ينجح أحمد المهدي في رسم صورة حقيقية بدرجة مبهرة لأحداث الشتاء الأسود، تركت لدينا ظاهرة ما بعد الرؤية After Image بصورة ممتدة فواحة، فعندما تتم أحداث الرواية تصل لحالة من الانسجام العقلي تجعل أحداثها ماثلة أمامك، حتي بعد أن تغادر صفحات الرواية وتذهب لشئون أخرى، أحداثها تظل تطارد مخيلتك، لتشعر بمزيج من القلق والمتعة؟.
ولعل الشاعر جورج جرداق في قصيدته “هذه ليلتي” قد أصَّل لهذا المعني رومانسيًا بصورة مجازية بارعة حينما قال:
فادنُ مني وخذ إليك حناني ** ثم أغمض عينيك حتى تراني
وننتقل الآن لتطبيق هذا المفهوم في ميدان القصة القصيرة، حيث إن “قصة النتيجة” تعني قيام القاص بتحقيق الانزياح عن الزمن الخطي للقصة، فيبدأ أولًا بالخاتمة ثم يرتد للزمن الماضي باستخدام تقنية الاسترجاع الفني (الفلاش باك) حتى نصل إلي الأسباب التي أدت لهذه النتائج، وهنا يكون القاص أشبه برجل التحقيق الذي يحقق في جريمة ما، أو الطبيب النفسي الذي يفتش حول أزمات مرضاه النفسية وجذورها الناشبة في ذواتهم القلقة.
أما النوع الآخر من القصص فيستخدم التشويق بالتشغيل علي عنصر الغموض، فيكون القاص أشبه بمن يزيل الستار عن معروضاته شيئًا فشيئًا، فيبدأ في كشف حقائق سرده تدريجيًا، وأحيانًا ما تكون الخاتمة صاخبة أو عجيبة وبكلمات تحدث مفاجأة غير متوقعه، وتكسر أفق توقع القارئ، وتؤسس للمسافة الجمالية بين توقعاته وما أسفر عنه الحكي.
مرة قرأت قصة في عدد من أعداد مجلة القصة حول فتي وفتاة ألتقيا وربط بينهما الحب ثم أخذ القاص يشرح كيف تطورت العلاقة بإعلان الخطبة والتجهيز لعش الزوجية، كل هذا وأنا انتظر المفاجأة، ثم في ختام القصة كان وصف حفل الزفاف وسعادة الزوجين، فكانت المفاجأة أنه “لا مفاجأة”، والمغزي طبقًا لتأويلي أنه ليس شرطًا أن نتوقع عسرًا، وتكسيرا نفسيا لمعني “تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن” وهذا بالطبع من ذكاء القاص.
وطالعت للكاتب التركي عزيز نسين قصة قصيرة منذ ما يزيد على ثلاثين سنة في مجلة “العربي” الكويتية وفتنت بها، حيث تحمل أفاق للتأويل والجمال، وحيث براعة الفن واللمسة الإنسانية، وتحكي القصة كما أذكر عن حمار شاب يحكي عن جده الذي عاش أيام كان صوت الحمار مثل صوت الكروان! وكان الجد يغرد في الحقول بصوته الجميل، ويستمتع بالحياة الرخية والعشب الطري، وأحس بطيف ذئب وشم رائحته لكنه راح يخدع نفسه ويقول طوال القصة “لا ليس ذئبًا” ويبرر لها حتي يواصل استمتاعه بالأكل والغناء.
واستمر الحال طوال القصة هكذا والذئب يقترب وتبدو معالمه ورائحته بشكل أقوي، وهو يحوم حول فريسته، والحمار يقول وما الذي يأتي بالذئب في هذه الناحية لا يمكن أن يكون ذئبا، وهكذا حتي نشب حوافره في جسد الحمار الذي صرخ صرخه هائلة وتحشرج صوته ليتبدل إلى النهيق من الألم.
وهنا نجد تلك الرمزية في مثل هذه القصة الطريفة المضحكة المبكية في آن، وهذه نماذج قفزت سريعًا الآن في ذهني لقصص عاشت معي فيها فكرة جديدة أو كسرًا لأفق توقعي.
علي كل أيا كانت الطريقة القصصية، القصة ذات النهايات المفتوحة أو الارتدادية (ما تسمي بالدائرية بحيث تنتهي القصة بما بدأت به) أو نصف الدائرة “قوس” ذات لحظة التنوير، أو قصة الكناية، او غيرها، فإن فنية القصة وعمق أثرها بل ومعيارًا مؤكدًا لنجاحها اللافت، هو بقاء القيمة المعنوية والموضوعية حية على الدوام في ذهن القارئ، وتظل بصمتها الإنسانية ماثلة في ضميره.
ولعل لكل قارئ منا مثل هذا الرصيد، مما دفعني للسؤال: ما القصة أو القصص التي عاشت معك؟، فمنذ مطالعتك لها وأنت تتذكرها وتحكيها لآخرين، وأدعوك لتأمل قصصك المحبوبة، وإستكناه مضمونها التقريبي، ولعل السؤال الذي يشملك لماذا ظلت تلك القصة أو القصص حية بداخلي؟ وإني لعلي ثقة بأن الإجابة تشكل أرقي وأمتع القيم الفنية والإنسانية.
ميدل ايست أونلاين