لم يتمالك رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، أعصابه، من أجل حفْظ “قدسية” يوم السبت، بعدما غلبته اعتبارات التوظيف السياسي والإعلامي للإنجاز التكتيكي، الذي تمثّل في تحرير أربعة أسرى إسرائيليين لا يزالون على قيد الحياة، إذ بادر إلى عقد مؤتمر صحافي، وإجراء اتصالات هي أقرب إلى الاحتفاء، وكأنه يبحث عن أيّ انتصار مهما كان حجمه، في ظلّ المصائب والضغوط التي تتوالى على الرجل من الداخل والخارج.
ومع ذلك، لا يغيب عن الذهن أن عملية استعادة الأسرى ترافقت مع ارتكاب مجزرة مروّعة بحقّ المدنيين الفلسطينيين، وبمشاركة أميركية مباشرة، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 200 شخص فضلاً عن إصابة نحو 700، وهو ما ينطوي على أبعاد ورسائل مختلفة.
وبدا لافتاً، في الموازاة، أنه على رغم أجواء “الفرح” التي رافقت استعادة الأسرى، إلّا أن طيفاً واسعاً من المحلّلين السياسيين والأمنيين الإسرائيليين، أجمعوا على أن “عملية النصيرات لم تغيّر الواقع الاستراتيجي المأزوم لإسرائيل”. لا بل إن هذا الإنجاز التكتيكي يُذكّر إسرائيل مرّة أخرى “بمحدوديّة القوة”، وفق ما لفت إليه المحلّل السياسي في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، ناحوم برنياع، مؤكداً أنه “إذا كان هناك شخص ما يؤمِن بأن العملية العسكرية ستعفي الحكومة من صفقة (تبادل ووقف إطلاق النار)، فإنه يعيش في الخيال”.
ففي البعد الاستراتيجي، “لم تحلّ العملية العسكرية أيّاً من المشاكل التي تواجهها إسرائيل منذ 7 أكتوبر. لا المشكلة في الشمال، ولا المشكلة في غزة، ولا المشاكل العديدة التي تهدّد إسرائيل على الحلبة الدولية”.
وعليه، وعلى رغم أن “الإنجاز” المذكور احتل صدارة الصحف وحيّزاً من اهتمامات الرأي العام، إلا أنه لن تمرّ سوى بضعة أيام حتى تخبو هذه المظاهر، ثم يعود الجميع إلى الواقع المأزوم.
في المقابل، يبدو مستبعداً أن يترك تحرير الأسرى الأربعة، أيّ تداعيات على موقع حركة “حماس” في المفاوضات، بالنظر إلى أن العدد الأكبر من الأسرى لا يزالون بيدها، ما يعني أن معادلة التبادل لن تتغيّر.
وبحسب مسؤول أمني إسرائيلي، تحدّث إلى صحيفة “يديعوت أحرونوت”، فإن ما جرى يُعدّ “إنجازاً بطوليّاً وتكتيكيّاً بلا أهمية استراتيجية.
لم يتغيّر أيّ شيء: لا الوضع في الشمال، والذي هو على شفا فقدان السيطرة، ولا اليوم التالي (…) كما أن هذه العملية العسكرية لم تقلّص بشكل كبير أوراق المساومة التي في أيدي حماس. فحتى لو كان لديهم عشرة جنود ومواطنين، فإن في إمكانهم مبادلتهم بآلاف الأسرى. ولا يزال لديهم أكثر من ذلك بكثير».
يضاف إلى كلّ ما تقدّم، أن الحدث استثنائي، وليس محطّة في مسار عملياتي متواصل؛ إذ إن نجاح العملية سيحفّز المقاومة على اتّخاذ إجراءات أشدّ لمنع تكراره، وهو ما ألمح إليه الناطق باسم “كتائب القسام”، أبو عبيدة، الذي حذّر من أنه “ستكون لهذه العملية نتائج سلبية على بقية الأسرى”.
ومن المعلوم أن هذا النوع من العمليات محفوف بالمخاطر ويمكن أن يتحوّل إلى “كارثة”، فيما أيّ متغيّر أو أيّ عقبة طارئة تتهدّد بإفشاله. ولذلك، وبحسب المسؤول الأمني نفسه، فإن “احتمالات تكرار عمليات عسكرية من هذا النوع، ضئيلة أيضاً، بسبب المصاعب في الحصول على معلومات استخباراتية، ولأن حماس تستخلص الدروس”.
وإذا كانت إسرائيل احتاجت إلى ثمانية أشهر من أجل تحرير أربعة أسرى أحياء، فإن ذلك يعني أنه ليس أمامها سوى الخيار التفاوضي لتحرير الـ120 أسيراً المتبقّين، والذين تُقدِّر الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بأن نصفهم ما زالوا على قيد الحياة.
ولذلك، فإن القراءة الهادئة للعملية تؤكد الحاجة الإسرائيلية إلى وقف الحرب على غزة كجزء من اتفاق أوسع مع حركة “حماس” يؤدّي في نهاية المطاف إلى صفقة تبادل. ويبدو أن هذا الانطباع لم يقتصر على المُحلِّلين، بل امتد أيضاً إلى شريحة مهمّة من الجمهور الإسرائيلي، إذ تظاهر الآلاف في تل أبيب، وتوحّدوا حول رسالة واحدة: “صفقة الآن”؛ والصفقة تعني وقف القتال حتماً، وهو موقف يكشف عن فشل الترويج لأيّ أوهام في هذا الاتجاه.
من جهة أخرى، يكشف حجم المجزرة المروّعة التي ارتكبها العدو في النصيرات، عن أنه تعمَّد تنفيذها تحت ستار إنقاذ الأسرى، فيما تعمل الأبواق الصهيونية في الغرب على صرف الانتباه عن المجزرة، من خلال التركيز على الأسرى الأربعة، كما لو أن سقوط نحو 1000 شهيد وجريح في عملية إجرامية واحدة، هو أضرار جانبية مُبرَّرة.
والواقع أن العدو قدَّم بذلك عينة عن طبيعة عملياته الموضعية التي يروّج لها للمرحلة التالية من الحرب، علماً أنه ينبغي أن يبقى حاضراً كون الولايات المتحدة شريكة في هذه الجريمة. ومع أن هذا الأمر ليس مفاجئاً ولا جديداً، إلا أن استحضاره يأتي من أجل التذكير دائماً بضرورة عدم الوثوق بواشنطن عندما تلعب دور الوسيط، وإنكار حقيقة أن أولوياتها هي مصالح إسرائيل.
صحيفة الأخبار اللبنانية