يعتبر البعضُ المفوضيةَ الثلاثيةَ، المعروفة بالإنكليزية باسم Trilateral Commission، أحد أهم المنظمات غير الحكومية في العالم. وتمثل المفوضية نخبة النخبة العالمية وتضم، كما يقول موقعها الرسمي على الإنترنت، حوالي ثلاثمئة وخمسين شخصاً فقط من أبرز رجال الأعمال والإعلاميين والأكاديميين والسياسيين والنقابيين وممثلي المنظمات غير الحكومية الأخرى من شمال أمريكا وأوروبا واليابان.
تنتظم المفوضية في ثلاثة فروع قارية: أمريكي وأوروبي وشرق آسيوي، لكل منها رئيس، ويمثل الرؤساء الثلاثة المجلس الرئاسي للمفوضية. واعتباراً من سنة 2007، يضم فرع شمال أمريكا مندوبين من الدول المنضوية في اتفاقية نافتا (اتفاقية التجارة الحرة الأمريكية الشمالية، وهي الولايات المتحدة 87 مندوباً، وكندا 20 مندوباً، والمكسيك ثلاثة عشر مندوباً). ويضم فرع أوروبا مئة وستين مندوباً من واحدٍ وعشرين دولة منضوية في الاتحاد الأوروبي. ويضم فرع شرق آسيا ست وتسعين مندوباً، منهم سبعٌ وخمسون مندوباً من اليابان، وخمسة عشر مندوباً من كوريا الجنوبية، وثمانية مندوبين من استراليا ونيوزيلندا، وستة عشر مندوباً من منظمة آسيان (ومؤسسيها أندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلند وسنغافورة)، وتضم التشكيلة الجديدة عن شرق آسيا مندوبين من الصين الشعبية وهونغ كونغ وتايوان.
ويلاحظ أن المفوضية الثلاثية تتوسع دوماً باتجاه استقطاب مندوبين “غير حكوميين”، من كبار رجال الأعمال والمثقفين والإعلاميين والسياسيين وغيرهم، تبعاً لتوسع فعاليات الجغرافيا الاقتصادية حول العالم وانخراط مراكز جديدة في الاقتصاد المعولم. فعند تأسيس “المنظمة الثلاثية” (وهي تسمى هكذا أحياناً بدلاً من “المفوضية الثلاثية”) عام 1973 كان فرع شرق آسيا يضم اليابان فقط، ثم توسع بانتظام ليضم مندوبين من كوريا الجنوبية، وأخيراً الصين الشعبية، تبعاً لتحول الفعاليات الاقتصادية في تلك البلدان إلى فعاليات عالمية. وكذلك تم استقطاب مندوبين من المكسيك بعد انضمام الأخيرة لاتفاقية التجارة الحرة الأمريكية الشمالية، كما تم استقطاب مندوبين من بعض دول أوروبا الشرقية مثل هنغاريا وتشيكيا وسلوفينيا وبولندا واستونيا بعد انضمامها للاتحاد الأوروبي، وهكذا.
ولا شك أن “المفوضية أو المنظمة الثلاثية” قد تحولت منذ تأسيسها كمنظمة ما فوق-قومية إلى أحد أهم محركات العولمة، تماماً مثل “منتدى دافوس” الذي أسسه د. كلاوس شواب عام 1971 كمنتدى لأكبر الشركات الأوروبية ليكون محركاً للوحدة الأوروبية في البداية، ليتحول “المنتدى” بعدها إلى منبر سياسي لأكبر ألف شركة عالمية، وبالتالي إلى منتدى خاص بممثلي أكبر الشركات متعدية الحدود.
“المفوضية الثلاثية” لا تدار كمنتدى اقتصادي صرف، بل كمجموعة ذات أجندة سياسية وثقافية وعقائدية محددة هي أجندة رأس المال المالي الدولي، وهي تضع توجهات وبرامج على مستوى عالمي كثيراً ما تتحول إلى سياسات فعلية على الأرض، بالأخص من خلال السياسات التي تضعها المؤسسات المانحة مثل مؤسسة روكفلر ومؤسسة فورد وغيرها.
ولعل ارتباط “المنظمة الثلاثية” بالمصارف والكتل المالية العالمية يعود لكون مؤسسها في تموز / يوليو عام 1973 كان المصرفي الأمريكي وأحد أهم دعاة العولمة ديفيد روكفلر، شيخ عشيرة أل روكفلر أصحاب واحدة من أهم الكتل المالية العالمية، ومؤسسي احتكار ستاندرد أويل النفطي، وبنك “تشايس” العالمي، و”مؤسسة روكفلر”، الذراع الثقافية لآل روكفلر التي وجهت أربعة عشر مليار دولار منذ نهاية القرن التاسع عشر، ضمن أجندة محددة، نحو الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، ونحو العلوم الاجتماعية والفنون والمنظمات غير الحكومية.
ويذكر أن ديفيد روكفلر وضع مشروع تخرجه من جامعة هارفرد عام 1936 عن “الاشتراكية الفابية” (الاشتراكية المسالمة، التدريجية)، وقد توجه ديفيد بعدها للدراسات العليا في الاقتصاد في هارفرد، ومن ثم في “مدرسة لندن للاقتصاد” London School of Economics، ليحصل من ثم على شهادة الدكتوراة في الاقتصاد من جامعة شيكاغو” المرموقة التي أسستها عائلة روكفلر، وجامعة شيكاغو ما زالت تعتبر اليوم واحدة من أهم منارات عقيدة “الاقتصاد الحر” في الولايات المتحدة، حيث بقي يدرِّس ميلتون فريدمان، أهم منظر معاصر للرأسمالية، حامل جائزة نوبل في الاقتصاد، محطم النظرية الكينزية، وواضع الأسس النظرية لإخراج الدولة تماماً من الاقتصاد، أكثر من ثلاثين عاماً.
يتضح من مثال ديفيد روكفلر مدى انخراط بعض ممثلي رأس المال المالي الدولي في المشروع الأيديولوجي والثقافي والسياسي للرأسمالية، وحرصهم على السيطرة على أجندة الإعلام والأكاديميا والسياسة عالمياً.
قوبل روكفلر بمقاومة لإشراك اليابان في اجتماعات مؤتمر مجموعة “بيلدربرغ” السنوية عام 1973، حيث أراد ديفيد روكفلر أن يتجاوز الدور السياسي الأوروبي لمؤتمر بيلدربرغ باتجاه تكوين إطار سياسي للعولمة على نطاق كوني، ولما لم يجد تجاوباً، قام روكفلر كرئيس ل”مجلس العلاقات الخارجية”، بالتعاون مع زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس جيمي كارتر، وعدد من أعضاء “مجلس العلاقات الخارجية” الآخرين، بالإضافة إلى أعضاء من مؤسسات ثقافية أخرى مثل “معهد بروكينغز” والمؤسسات المانحة مثل “مؤسسة فورد”، بتأسيس “المفوضية الثلاثية” أو “المنظمة الثلاثية” في تموز / يوليو 1973 كأم للمنظمات غير الحكومية عابرة الحدود، وكإتحاد لأصحاب القرار السياسي والاقتصادي والثقافي الدولي، وكأحد محركات العولمة التي بدأت فوراً بتعميق وتوسيع ظاهرة المنظمات غير الحكومية ومراكز الأبحاث الممولة أجنبياً على نطاق كوني في سياق سياسي محدد، وبالإضافة إلى بريجينسكي، كان بول فولكر وألان غرينسبان من مؤسسي “المنظمة الثلاثية” أيضاً، وكلاهما أصبح لاحقاً رئيساً للبنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) في الولايات المتحدة.
ومع أن عضو “المنظمة الثلاثية” الذي يتبوأ منصباً حكومياً رسمياً في بلده يفترض أن يتخلى عن عضويته فيها، حسب موقعها الرسمي على الإنترنت، فإن ديك تشيني، نائب الرئيس في عهد جورج بوش الابن، ما زال واحداً من ال87 مندوباً أمريكياً في “المفوضية الثلاثية”، كما أن عددا من النواب والشيوخ الأمريكيين أعضاء في صفوف “المنظمة الثلاثية” في أمريكا الشمالية. وتجد من بين المندوبين الأمريكيين الآخرين أيضاً حفنة من الرؤساء الأمريكيين السابقين مثل جورج بوش الأب وبيل كلينتون وجيمي كارتر، ونائب الرئيس الأمريكي الأسبق والتر مونديل، بالإضافة إلى عدد من المسؤولين الكبار السابقين في الإدارات الأمريكية مثل زبيغنيو بريجينسكي وهنري كيسنجر وبول ولفوويتز.
ولكن، كما سبقت الإشارة، لا يجوز أن يفهم من هذا أن “المنظمة الثلاثية” تقتصر على كبار السياسيين، بل تجد بين الأعضاء الحاليين أو السابقين خلال السنوات الأخيرة في فرع أمريكا الشمالية مثلاً عدداً من المصرفيين والصناعيين، بالإضافة إلى عدد من كبار الإعلاميين والأكاديميين. ومن هؤلاء مثلاً رايلي بكتل، رئيس مجموعة شركات “بكتل”، وسوزان بيريسفورد رئيسة مؤسسة فورد (التي تنافس مؤسسة روكفلر في دعم المنظمات غير الحكومية ومراكز الأبحاث)، وغيرهارد كاسبر، رئيس جامعة ستانفورد، ودنيس دمرمان، نائب رئيس شركة جنرال الكتريك، وجون دويتش، بصفته أستاذ كيمياء في جامعة أم أي تي MIT، ورئيس سابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA، ومايكل أرمسترونغ، رئيس شركة الاتصالات الأمريكية AT&T، ووليم إسري، رئيس شركة سبرينت للاتصالات، وساندرا فلدمان رئيسة نقابة المدرسين الأمريكيين، ولويس غيرستنر، رئيس شركة أي بي أم IBM، ووليم مكدونو، رئيس فرع البنك المركزي الأمريكي (البنك الاحتياطي الفدرالي) في نيويورك، وهنري مككنل، رئيس شركة فايزر للأدوية، ولوشيو نوتو، رئيس شركة موبيل النفطية، ولي ريموند رئيس شركة أكسون النفطية، ومورتيمور ذوكرمان، رئيس تحرير أسبوعية يو أس نيوز أند ورلد ريبورت، وجورج سورس، رئيس صندوق سورس الاستثماري (للمضاربة المالية)، وبول فولكر، رئيس سابق للبنك المركزي، وهيو ماكول، رئيس شركة “بانك أمريكا”، وجيرالد لافين، رئيس عملاق الإعلام والإنتاج السينمائي شركة “تايم ورنر”، وريتشارد هاس، مدير قسم دراسات السياسة الخارجية في معهد بروكينغز، وغيرهم بضع عشرات من نفس العيار الثقيل، وما سبق كان مجرد عينة من فرع أمريكا الشمالية، يوجد ما يعادلها في فرعي أوروبا وشرق آسيا.
وقد سبقت الإشارة إلى أن مثقفي “معهد بروكينغز”، كانوا من مؤسسي “المنظمة الثلاثية”، ولذلك تجد رئيس المعهد ضمن قائمة أعضائها في فرع أمريكا الشمالية. ويشار إلى أن “معهد بروكينغز” يتألف من عدة مراكز أبحاث، أحدها عن الصين مثلاً تأسس عام 2006، وأحدها عن “الشرق الأوسط” تأسس عام 2002 (مركز حاييم صابان). وقد تأسس معهد بروكينغز عام 1916، وهو أحد أشهر المراكز البحثية في الولايات المتحدة إن لم يكن أشهرها على الإطلاق، ويتخصص بالدراسات الاقتصادية والسياسية، وبالسياسة الخارجية، ويتلقى الدعم من حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان، ومن مؤسسات مانحة مثل مؤسسات فورد وروكفلر. ويضم المعهد أكثر من مئتي عالم وباحث متخصص، حسب موقعه على الإنترنت.
كما سبقت الإشارة إلى أن أعضاء “مؤسسة فورد” كانوا من مؤسسي “المنظمة الثلاثية”. و”مؤسسة فورد” كانت قد أسستها عائلة فورد عام 1936، مالكة شركة السيارات المعروفة، كذراع ثقافية لآل فورد بهدف “نشر الديموقراطية، وتخفيض الفقر، والترويج للتفاهم الدولي”، وقد بلغت قيمة أصولها عام 2006 حوالي اثني عشر مليار دولار، ووزعت في نفس العام 530 مليون دولار من المنح على مشاريع “تركز على تعزيز القيم الديموقراطية، والتنمية الاقتصادية والمحلية، والتعليم، والإعلام، والفنون والثقافة، وحقوق الإنسان”. ويشار إلى أن وقف “مؤسسة روكفلر” بالمقابل بلغ 3،4 مليار دولار في بداية عام 2006، ولكنها أنفقت أكثر من أربعة عشر مليار دولار على العلوم والفنون والعلاقات الدولية خلال القرن الماضي كما سبق الذكر.
ومع أن الحديث يطول حول “المنظمة الثلاثية”، فإن هناك من يصر بأن أعضاءها، في فروعها العالمية الثلاث، يشكلون النخبة التي تحكم العالم بالفعل وتحدد أجندته السياسية والاقتصادية والثقافية. ويشير بعض المحللين إلى أن بؤر النفوذ العالمي تتمحور بالدرجة الأولى حول أعضاء “المنظمة الثلاثية” ال350، وأعضاء “مجلس العلاقات الخارجية” الثلاثة آلاف، وأعضاء “مجموعة بيلدربرغ”.