ماذا عن المشروع القومي العربي..
المتابع لآراء وتصريحات الكثير من المهتمين بالشأن العربي، يلحظ طغيان النفس الذي يمكن وصفه بالتشاؤمي. ولا يحتاج المرء إلى البحث عن التبريرات في ظل ما نشهده من أوضاع، لكن قوميين عرب مثل زهير حمدي، الأمين العام للتيار الشعبي وعضو البرلمان التونسي، يقول “المشروع القومي العربي، ورغم خطاياه الجسام، إلا أن له الفضل في بناء الدولة الوطنية، وهو اليوم مطالب باستعادة دوره أكثر من أي وقت مضى”، مضيفا “إننا مطالبون بالمزيد من العمل وسط هذه الهجمة المنظمة وهذه الانقسامات”، معتبرا أن “صحوة قومية كبيرة تتشكل الآن”.
الذين يصفون أنفسهم بالواقعيين والمعتدلين، يرون أنه لا يمكن التخفيف من حدة هذه الانقسامات إلا بوضع خطة عمل مشترك تعيد إلى الفكر العربي الاستراتيجي مساره الصحيح.
ويؤكد خبراء واستراتيجيون عرب أن هذا الأمر ليس مستحيلا، وقد أثبتت نماذج كثيرة، خصوصا في الخليج، فعاليتها وجدواها. ولا يمكن تصنيف الإيمان بالعالم العربي كيانا موحدا ومنسجما ضمن تلك الرومانسية التي طالما اتهمت بها الأجيال الحالمة بالوحدة العربية منذ خمسينات القرن الماضي ثم ما لبثت أن تقوقعت وأصابها الإحباط تأثرا بما آلت إليه الأوضاع.
ويرى عبدالمنعم سعيد، الخبير في الشؤون الإقليمية، أن الوحدة العربية بمعناها الذي عبر عنه الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، في ستينات القرن الماضي لم تعد موجودة، لكن لا تزال هناك رغبة عربية في أن تكون ثمة منصة مشتركة بين جميع الدول تحافظ على هيكل موحد للبلدان العربية.
وأضاف أن الدول العربية ارتضت القبول بالحد الأدنى من التواجد المشترك تحت منصة جامعة الدول العربية، وإن تقلصت أدوارها إلى الحد الذي أصبحت فيه، ولم تعد قادرة على التعامل مع تشابك الأزمات واختلاف المصالح بين أعضائها.
وبعيدا عن المجادلات النظرية، فإن الحالة العربية ككتلة بشرية وهوية ثقافية، هي موجودة ولا يمكن إنكارها تحت أي عنوان أو ذريعة، بدليل أن الجيران الإقليميين (إيران، تركيا وإسرائيل)، وبكل ما يحملونه من أطماع وما يمارسونه من تدخلات، يعترفون بعراقة هذه الثقافة، ويحسبون لها ألف حساب، فيسعون بالتالي لإضعافها ومنعها من أي تطور يهدد مصالحهم.
تنسيق الجهود بدل الاستسلام لقناعة مفادها أن الوحدة العربية مجرد نكتة كان يرددها الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
كيانات أخرى هجينة وضعيفة، ولا تملك ما يملكه العالم العربي، استطاعت أن تسبق الجامعة العربية في ابتداع آليات مشتركة متعلقة بتحديات الأمن القومي. ولعل خير مثال على ذلك هو الاتحاد الأفريقي عبر القوة العسكرية الأفريقية المشتركة أو مجلس الأمن والسلم الأفريقي.
الأمر يتعلق إذن بالإرادات السياسية، وارتهان بعض الحكومات إلى أجندات خارجية كما تفعل قطر الآن، وليس بغياب المعطيات والإمكانيات، بدليل أن فكرة العروبة تجد لها حواضن وجدانية لدى الفئات الشعبية العريضة، مما يقيم الدليل على أن العرب بإمكانهم أن ينسقوا جهودهم ليصبحوا أفضل مما هم عليه الآن بدل الاستسلام لقناعة مفادها أن الوحدة العربية، مجرد نكتة كان يرددها الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
الأنظمة التي حكمت تحت شعار العروبة، وأكثرت من ترداد كلمات شبه جوفاء من قبيل “الوطن العربي” و”دولة الوحدة”، ساهمت في تنفير الأجيال التي عاشت في ظل حكمها من كل ما يوحي بالعرب والعروبة، فكأنما هذه الأنظمة مكلفة بمهمة واحدة اسمها: ترسيخ معاداة العرب للعروبة.
ولعل أفضل دليل على صحة هذا هو زوال هذه الأنظمة، وبقاء “العروبة” كحالة شعبية وجدانية وحقيقية، خصوصا في البلدان العربية التي لم يتشدق حكامها ولم يزايدوا باسم العروبة.
نجاح البرامج الثقافية والمنوعات الفنية والندوات الفكرية التي تقام في العالم العربي، هو دليل آخر على أن ما يجمع بين العرب أكثر مما يفرقهم.
لنكن واقعيين أكثر مما يجب، ونستخدم عبارة “منظومة الدول المستخدمة للغة العربية”.. ماذا سيتغير في الأمر؟
الجواب هو أننا تجنبنا إثارة حساسية المكونات الثقافية غير العربية في العالم العربي، ولم نستفزها لغويا، لكن الواقع أعقد من ذلك بكثير، ويتعلق بغياب التعددية واحترام المختلف.. إنها إذن منظومة كاملة وليست مجرد تسمية لغوية.
قد يقول قائل؛ ما الذي يربط شعوبا مختلفة وتمتد من الخليج الواقع بين شبه جزيرة العرب وبلاد فارس في قارة آسيا مرورا بالبحر الأحمر ووصولا إلى الشمال الأفريقي حتى المحيط الأطلسي وغرب أفريقيا؟
الرابط اللغوي حين يضاف إليه رابط آخر اسمه الإرادة والرغبة في التواصل والعيش المشترك، يصبح ممكنا دون فذلكة لغوية أو ضرورة تحكيم الأبحاث الأنثروبولوجية والمسوحات الأركيولوجية.