ماذا فعلتم بالبلد يا أولاد؟
بما أنّي أعمل حالياً في ما يُعرف في وسط بيروت، وأتجوّل ذهاباً وإياباً في هذه المنطقة الجميلة سابقاً، والتي كان يُطلِق عليها أهل المدينة اسم “البَلَد”، أجدُ نفسي في غُربتَين، زمنيّة ومكانيّة؛ بحيث بتُّ أدرك أكثر اليَوم ما يعنيه علماء اجتماع المعرفة عندما يتكلّمون عن نسبيّة الزمان. فمفهومي للزمان، في هذه البقعة من العاصمة، قد طُعن في الظَّهر بفعل تبدّل مفهوم المكان فيه.
فأين ذهب البَلَد؟ أين ذهب وسط المدينة؟ أين ذهب قلب بيروت؟ يبدو أنّه انفجر. فالوسط أضحى أوساطاً، والقلب غدا بلا نبض.
هاجَر الوسط ذو القلب الكبير إلى أوساط صُغرى. فنبتَ وسط في سوق معوّض في الشيّاح، وآخر في الجدَيدة، شمال العاصمة، وآخر في فردان. غير أنّ جميع هذه الأوساط، حتّى لو تمّ جمعها، فلن تساوي الوسط الأصلي، في البَلَد. بكلّ بساطة لأنّ تكوين وسط لمدينةٍ، عاصمةٍ، لا يعود إلى عملية حسابية، ناتجة عن تجميع الأفراد وتكديس أعدادهم.
فها هو مثلاً السوق المركون عند أحد أطراف “وسط المدينة” الجديد، والذي يحمل زوراً اسم أسواق بيروت. فهل يستحقّ هذا الاسم، وهل يحقّ له انتحال هذا الاسم؟ أم هل إنّه مجرّد “مول كبير”، على نمط المولات الحديثة الرائجة في الغرب؟ إنّه اسم بلا روح، لأنّ لا قلب له في الأساس.
أمّا أسواق بيروت، التي كانت تقوم في هذا المكان، فكانت اسماً على مسمّى، وكانت تنبعِث منها نكهة الأسواق الشعبية العربية، وحتّى الكنعانية – الفينيقية، القديمة. كانت أسواقاً اجتماعية واستهلاكية على حدّ سواء، في حين أنّ ما يَمثل أمامنا حالياً ينتمي إلى ذهنية الاستهلاك فقط.
لماذا يا تُرى؟
1) لأنّ جمهور أسواق بيروت ما قبل الحرب، كان جمهور كلّ لبنان، وجمهور كلّ بيروت. فالبوسطات الآتية من البقاع والجبل والجنوب والشمال، كانت تحطّ كلّها في هذا المكان الواحد الذي يستقبل الجميع على قاعدةٍ جامِعة. فباصات البقاع والجنوب، كانت تحطّ بركّابها عند ساحة رياض الصلح، وباصات الشمال وجبل لبنان كانت تصبّ عند ساحة الشهداء. وكانت الساحتان موصولتَين بالأسواق المختلفة القائمة في ما بينها. فكان هذا الجمهور اللبناني المُتنوّع يتغلغل في أسواق المعرض وساحة النجمة، حيث المكتبات الكبيرة والصغيرة، وفي سوق الطويلة للأقمشة والملابس، حيث كان يمرّ باعة العصير ويطلقون نداءهم الجذّاب: “مين عطشان؟”، ويتفرّع منه سوق “الباله” للزوّار الأفقر والطلّاب الباحثين عن سترات صوف رخيصة، وسوق الكندرجيّة، حيث كان ينتظركَ التّاجر الأرمني الحَاذق، يُرتّب الأحذية النسائية والرجّالية على نحوٍ لافت، وسوق الخضار، حيث الباعة الأكراد والعتّالة والزبائن من كلّ حدب وصوب، وسوق السَّمك أسفل كاتدرائية مار جرجس بروائحه القوية، وسوق الحمير، أو ما تبقّى منه، حيث كانت تُباع زركشات الدواب كافة والخرزات الزرق، وسوق بسطات اللعازاريّة للكُتب المُستعملة، الذي كان يعجّ بجمهورٍ من الطلّاب والمثقّفين والأجانب، حيث يبحث كلُّ واحدٍ عن ضالّته، يشتري أو يستبدل كتاباً بآخر. ولن ننسى سوق ماريكا، خلف المباحث… في الجهة المقابلة لسوق الصّاغة الشهير، المُقَنطَر والجميل.
هذا المجتمع الفوري والوهن، المُتجدّد في كلّ يوم، كان يجد ما يحتاجه من مأكولات “فاست فود” و”فاست درينك” محلّية، من فلافل وشاورما وعصائر فاكهة طبيعية (من دون موادٍ حافظة). كلّ شيء كان موجوداً، وعلى الفور، على نحو خليّة نحل كبيرة، يشتري أفرادها ويتسوّقون ويتسوّلون ويكتشفون بعضهم بعضاً على نحو يومي.
من هنا الألفة العارِمة التي كانت تفوح من هذه الأسواق التي كانت بمثابة مدرسة اجتماعية كبيرة، شعبيّة في المَقام الأوّل والأخير؛ علاماتها الفارقة الوحيدة كانت تقع في سوق الفرنج، عند باب إدريس، حيث كانت “النُّخبة” تتموّن بالشراب الفرنسي والأجبان الأوروبية والخبز الفرنجي. وتحته، شارع فيغان، للمحلّات الفاخرة.
لكنْ، حتّى هذا الدخيل، كان له حقّ الانتماء إلى أسواق بيروت التي كانت أسواقاً جامعة ومفتوحة، لا تستثني أحداً، وتَقبل بالجميع. كانت واحة أمان للجميع . يشعر الكلّ أنّها له، ويشعر الكلّ أنه ينتمي إليها.
2) عند بوّابات هذه الأسواق، كانت تقوم، في الستينيّات والسبعينيّات، مؤسّسات ثقافية عليا، شعبيّة ومفتوحة للجميع، اسمها السينمات.
ومَن ذا الذي لم يتعلّم فيها، من أجيال ما قبل الحرب؟ كلّنا كنّا تلاميذ نجباء في هذه المدارس العظيمة التي كانت تستقبلنا بعد المدرسة. كانت مدرستنا المفتوحة على الخيال، لكنّها كانت أيضاً مدرستنا المفتوحة على التاريخ والجغرافيا، وعلى الآخر المُختلف.
فالأفلام التاريخية التي كانت تُعرض إذ ذاك عرَّفتنا على الحضارات الغابرة. فمع أفلام سبارتاكوس وكوفاديس وتاراس بولبا، اكتشفنا عالم الإغريق والرومان والمغول. وأضحت معارفنا النّظرية، المُكتسَبة على مقاعد المدرسة، مُندغمة مع معارفنا العملية، المُكتسَبة على مقاعد السينما. كانت الأفلام التاريخية بمثابة أعمال تطبيقية لما كنّا ندرسه في الكُتب، وكنّا نتذاكى أحياناً على أساتذتنا في المدرسة بهذه المعلومة أو تلك، المُستقاة من هذا الفيلم أو ذاك.
وعندما انتقلنا من الأفلام التاريخية الهوليوديّة إلى التاريخ المعاصر، مع الفيلم الجزائري “معركة الجزائر” مثلاً، المعروض في سينما “راديوسيتي”، انفجرت القاعة افعالاً، وخَرج جمهور السينما إلى الشارع على شكل تظاهرة، تضامناً من الشعب الجزائري؛ حيث لم يكن يقتصر تفاعلنا مع الأفلام الغربية المحتوى (The Longest day) بل مع الأفلام التي تعنينا مباشرة. مع تتويجٍ متميّز في فيلم “كلّنا فدائيون”.
كانت السينما عالمنا الخيالي، لا الافتراضي، وكنّا نتفاعل مع العالَم الخارجي من خلالها، في اتّجاه الآخر كما في اتّجاه الذّات. كنّا تلاميذ أنجباء في المدرسة وفي السينما وفي الحياة، لأنّنا كنّا نفتحها جميعاً على بعضها البعض. فالخلطة المعرفية الناتجة عن هذه العملية الذهنيّة، جعلت هذا الجيل جيلاً فوّاراً، استفاد من حريّة تعامله مع الثقافة السينماتوغرافية الوافدة على نحوٍ بَلَدي، انطلاقاً من همومنا المحلّية الصغيرة التي ما لبثت أن صارت كبيرة، عندما دقّت ساعة الحرب، حيث انتقلنا من الحروب والصراعات المتخيّلة إلى الحروب الحقيقية الملموسة. ومعها إمَّحت قاعات السينمات الكبرى، أكاديميات خيالنا، وذهبت مع الريح، فأقفل المتقاتلون الأسواق التي تحوّلت الى منطقة عسكرية. ومعها أقفلت سينما “ريفولي” و”بيبلوس” و”دنيا” و”أمبير” و”راديو سيتي” و”الكابيتول” العملاقة، وحتّى قاعات السينما الأصغر حجماً والأكثر تواضعاً، كسينما “كريستال”، في سوق الحمير. ونشير حول هذه السينما البيروتيّة المتميزَّة، أنّها كانت سينما صغيرة، يملكها صاحب مَخمر مَوز، وأنّ جمهورها كان يتكوّن من عتّالة سوق الخضار المُلاصق لها، والذين كانوا يجلسون على بسط، على الأرض، لغياب المقاعد. علماً أنّ تذكرة دخول سينما “كريستال”، حيث كانت تُعرَض أفلام action بلا انقطاع، تقتصر على شراء كيلوغرام من المَوز وأكْله أثناء العرض.
3) أمّا اليوم، فما الذي حصل لكلّ ذلك؟
امّحت كلّياً معالِم السينمات والمطاعم والمقاهي الشعبية والأسواق والمجتمع اللبناني المتنوّع والشعبي القادِم من كلّ أنحاء البلاد، وغدونا في مكانٍ فاقدٍ للهويّة.
يذكّرني ذلك بما كتبه الأنتروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه في كتابه “الأمكنة واللّاأمكنة”، حيث يُشير إلى أنّ الحداثة الغربية جاءت فتّاكة بالنسبة إلى اجتماعيّات الناس؛ إذ إنّها أَلغَت الأمكنة التقليدية السابقة (السّاحات العامّة، عيون الماء، المقاهي والمطاعم الشعبية الكبيرة)، واستبدلَتها بلا أمكنة (محطّات قطار ومطارات ومولات)، حيث لا احتكاكاً اجتماعياً ومجرّد إشارات مكتوبة “بلغة الأمر”، تُشير إلى اتّجاهات وتوقيت أو أصناف سلع وأسعار.
أضحى البَلَد اليوم لا مكاناً.
فئتان لا يأبهون للأمر: الملّاكون والجيل الجديد.
فالمالكون الجُدد لقلْب بيروت الأخرى لا يكترثون سوى بمنطق الربح. المهمّ بالنسبة إليهم استثماراتهم، لا المجتمع ولا المكان، وهُم من صُنف رجال الأعمال الذين تجدهم في العواصم المالية العالمية كافّة اليوم. أما الجيل الشبابي الجديد، فلا يُدرك معنى هذا المكان. وعندما تروي له ما كان يَحدث في هذه البقعة الفوّارة من العاصمة، لا يفهم ما تقوله. يبتسم باحترام ويقول: “أنا لا أعرف هذا المكان سوى كما هو عليه اليوم”.
وعندها، تشعر أنّك أصبحتَ أمامه كشارل أزنافور الذي يغنّي أغنية La Bohème.
مَن المسؤول؟
بطبيعة الحال أصحاب العقل الفينيقي الجشع الذين استفادوا من دمار الحرب الأهلية للعْب لعبتهم المالية – السياسة. فما أنتجه عقلهم في هذا المكان جاء مثلهم، بلا روح وبلا حسّ اجتماعي، ربحياً وغير شعبي. بحيث حوِّل المكان عنوةً وإرادياً إلى لا مكان. كما أنّ المسؤول أيضاً هو الدّولة اللّادولة التي نعيش فيها منذ 1975، والتي تتواطئ ولا تُحاسِب، ترتجل ولا تُخطّط، تُمهل وتُهمل.
أوَ لا يُقال، في التعبير الشعبي، “البلدي”: “طنجرة ولقيت غطاها؟”.
*أستاذ وعميد متقاعد في معهد العلوم الاجتماعية – الجامعة اللّبنانية
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)