ماذا وراء تكثيف أمريكا لتصريحاتها بدعم إسرائيل في الحرب “الوشيكة” في لبنان؟
عبد الباري عطوان
لم نَعُد نحتاج إلى خُبراء مجلّة “الفورين أفيرز” الأكاديميّة الأهم في العالم الغربيّ، لكي يقولون لنا إنّ “إسرائيل” وبعد 9 أشهر من حربِ إبادتها في قطاع غزة لم تَهزِم المُقاومة برئاسة حركة “حماس”، بل ما حدث هو العكس تمامًا، أي انتصار المُقاومة، واستِمرار حُكمها، وتزايُد قوّتها وإنجازاتها الميدانيّة.
بنيامين نتنياهو وجِنرالاته بدأوا، وبشكلٍ مُتسارع هذه الأيّام يبحثون عن صيغةٍ تُنقذ ماءَ وجههم، لإنهاء الحرب، والهُروب من القطاع بأقلّ الخسائر، ويبدو أنهم وجدوها من خلال تسريبهم تصريحات تقول إنّهم حقّقوا أهداف هُجومهم على رفح، ونجحوا في القضاء على جناح حماس العسكري، والذّريعة الأُخرى التي يُردّدونها بكثافةٍ هذه الأيّام تتمثّل في حتميّة الانسِحاب قريبًا من القطاع من أجل التّركيز على الحربِ الوشيكةِ على الجبهة الشماليّة “لتحييد” أخطار “حزب الله” وتهديداته المُتصاعدة على أمنِ “دولة الاحتِلال” واستِقرارها ووجودها.
الجناح العسكريّ لحركة “حماس” باتَ أقوى من أيّ وقتٍ مضَى، وأصبح يُسيطر عسكريًّا على مُعظم مناطق القطاع، ولا يمر يوم دون أنْ تنجح “حرب العصابات” التي يشنّها في إطار استراتيجيّته الجديدة في اقتِناص العديد من الجُنود الإسرائيليين بين قتيلٍ وجريح من خلال الكمائن التي يبرع في نصبها، سواءً للدبّابات أو للجُنود، وهذا ما يُثبِت عمليًّا، وميدانيًّا، كَذِبْ الادّعاءات الإسرائيليّة التي لم يَعُد يُصدّقها أحد حتّى في المُؤسّسة العسكريّة.
البروفيسور روبرت بيب العالم السياسي الأمريكي، والخبير في شُؤون الأمن القومي والوطني، يؤكّد أنّ من أكبر أخطاء نتنياهو وجِنرالاته “ليس فشل التّكتيكات أو فرض قُيود سياسيّة وأخلاقيّة على القوّة العسكريّة، بل هو الفشل الشّامل، والصّارخ في فهم مصادر قوّة حماس”، وأضاف “إسرائيل تقول إنّ 14 ألفًا من مجموع 40 ألفًا من مُقاتلي حماس قُتلوا، بينما تعترف الحركة بمقتل 6 آلاف، بينما تُقدّر المُخابرات الأمريكيّة القتلى بحواليّ 10 آلاف، ولكن أرقام القتلى ليست المِعيار لقياس قُدرة “حماس” أو ضَعفها، وإنّما استمرار سيطرتها بقُوّةٍ على القطاع، وحُصولها على دعمٍ هائلٍ من حاضِنتها الشّعبيّة، والأهم من ذلك أن 80 بالمئة من شبكة أنفاقها ما زالت صالحة للاستِخدام”.
ما لم يَقُله البروفيسور بيب، ومُعظم الخُبراء السياسيين والعسكريين من أمثاله أنّ عشرات الآلاف من المُتطوّعين انضمّوا إلى المُقاومة المُسلّحة، وخاصَّةً حماس والجهاد الإسلامي، سواءً في القطاع أو الضفّة الغربيّة، وانخرطوا في تدريباتٍ سريّة على استخدام السّلاح في مراكز تدريب سواءً في الأنفاق تحت الأرض (غزة) أو فوقها (الضفّة)، مُعظمهم من الشّباب تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة، ممّا يعني أنّ كُلّ التّقديرات السّابقة لأعداد مُقاتلي حركتيّ حماس والجهاد الإسلامي يجب إعادة تحديثها على ضُوءِ هذا التطوّر.
الأمر الآخَر الذي يجب التوقّف عنده، هو أنّ حرب الإبادة التي شنّتها القوّات الإسرائيليّة في القطاع لن تُؤدّي إلى زيادة تشدّد قيادة حركة “حماس” وقواعدها فقط، وإنّما قد تُؤدي أيضًا إلى ولادة فصائل أكثر تَشَدُّدًا في المُستقبل المنظور، سواءً في القطاع أو الضفّة للثّأر لأرواحِ الشّهداء الأطفال والآباء والأمّهات الذين يزيد تِعدادهم عن 38 ألف شهيد، وأكثر من 85 الف جريح، فالثّأر يُعتبر من صُلب العقيدة القتاليّة الفِلسطينيّة.
اللّافت أنّ النّغمة التي كانت تتردّد طِوال الأشهُر التّسعة الماضية من عُمر “طُوفان الأقصى” حول البحث عن بدائلٍ لحُكم “حماس” اختفت، وسَمِعنا جِنرالات إسرائيليين داخِل الجيش الإسرائيلي أو خارجه، يعترفون أنّ القضاء على المُقاومة في القطاع من الأُمورِ المُستحيلة، لأنّ “حماس” فكرة، ولم تنجح جميع المُحاولات في التّاريخ في هزيمةِ الأفكار، والأمثلة كثيرة.
التّصريحات التي يُطلقها العديد من المُتحدّثين باسم الإدارة الأمريكيّة حاليًّا وتُؤكّد دعم الولايات المتحدة لدولة الاحتلال في حالِ انفِجارِ الحرب في جنوب لبنان في ظل التوتّر المُتصاعد، مُجرّد مُحاولة يائسة لطمأنة الرّأي العام الإسرائيلي المُنهار خاصَّةً في مُستوطنات الجليل، فما يفعله المسؤولون الأمريكيّون في السِّر هو مُمارسة ضُغوط هائلة على نتنياهو وجِنرالاته لمنع الانجِرار إلى حربِ الجبهة الشماليّة مع “حزب الله” لتجنّب كارثة كُبرى لدولة الاحتلال، وقد عبّر الجِنرال الإسرائيلي المُتقاعد إسحق بريك بشكلٍ دقيق في تصريحات له للقناة 13 الإسرائيليّة اليوم عندما قال “الحرب على لبنان سيعني الانتحار الجماعيّ لـ”إسرائيل” بقيادة الثّلاثي نتنياهو وغالانت وهاليفي”، وأضاف “لا يُمكن الفصل بين ما يحدث في قطاع غزة، وجنوب لبنان، فالجبهتان مُتّصلتان بعضها ببعض، وأنّ حزب الله يُطلق عشرات الصّواريخ والمُسيّرات ولا تنجح الدّفاعات الأرضيّة والجويّة في اعتِراضها سواءً عبر القبب الحديديّة أو الطّائرات، وعلينا أنْ نتذكّر دائمًا أنّ هُناك 200 ألف نازح من مُستوطنات الشّمال والأعداد تتصاعد”.
طالما أنّ السيّد حسن نصر الله وجِنرالاته يقودون حرب الاستِنزاف في الجبهة الشماليّة، والمُجاهد يحيى السنوار ذراعه الأيمن والجِنرال محمد الضيف ومُساعدوه في الجبهة الجنوبية، فإنّ دولة الاحتلال لا تُهرول بسُرعةٍ كبيرة نحو الهزيمة، وإنّما أيضًا إلى الانهيار الوجودي الكامِل، فقد خسرت الحرب في ميادين المُواجهة، مثلما خسرت الحرب النفسيّة، وباتت مكروهة في العالم أجمع تقريبًا، وتتضاعف هذه الكراهية بسُرعةٍ أكبر بعد تكثيف استِخدامها حرب المجاعة في القطاع في زمنٍ لا يُمكن فيه إخفاء المعلومة وصُور الشّهداء الأطفال جُوعًا المُوثّقة.
الجنوب اللّبناني، وحرب السّفن اليمنيّة، وصواريخ المُقاومة العِراقيّة، كُلّها تتعانق مع قطاع غزة ومُقاوميه في جبهةٍ واحدة بدأت تُغيّر كُل المُعادلات وقواعد الاشتباك ليس في المِنطقة، وإنّما في العالم بأسْرِه، إنّها لحظات تاريخيّة مُشرّفة ينتصر فيها الكفّ الشّريف على المخرز النّجس.
صحيفة رأي اليوم الالكترونية