ماقاله جورج طرابيشي .. عند قلعة حلب!
من يتعرف على المفكر السوري جورج طرابيشي، وهو يحكي عن الثقافة والفكر والترجمة وعلم النفس وعن خلافه مع محمد عابد الجابري وهو يطرق أبواب السبعين من عمره، ينسى مباشرة أن الزمن يمكن أن يقهر الإنسان، أو أن يحد من نشاطه !
كان جورج طرابيشي يرتدي ال((تي شيرت)) الأخضر البسيط، أنيقا وقاد الفكر، وهو يحكي لي عن حلب وكأنه لم يغادرها منذ نصف قرن، فيأخذني إلى القلعة ونجلس عند حافة سورها الذي يفصلنا عن الخندق الذي يطوقها، وما يلبث أن ينطلق إلى حارته ومدرسته وأفكاره عن حلب تتداعى سريعا، ثم أخذني لنزور بيت شقيقته، ثم نعود إلى الفندق ، ثم نجلس ونسجل ونصور ..
كان ينبض بالحيوية، لايمكن أن تكون حيوية رجل يطرق باب السبعين من عمره، فيما كنت أنا أشعر بالتعب فيتهدج صوتي، ويضعف تركيزي، وأشعر أنني أقدم عشرة امتحانات دفعة واحدة، أمام أستاذ يعلم عشرين مادة!
تعبت ، ولم يتعب هو ، بل إنه وقبل أن يدعني أغادره بسلاسة بعد يومين متواصلين قال لي إن من الضروري زيارة المكتبة التي تبيع كتبه في حلب قبل أن تغلق الأسواق لنصور عشرات الكتب التي حملت اسمه !
.
عندما سمعت بوفاة جورج طرابيشي، قبل أيام، كنت في إذاعة دمشق، فتذكرت إشراقة وجهه في حلب وأنا أخبره أنني أعمل في هذه الإذاعة. وقال وقتها وبسعادة بالغة :
ــ كنت مديرا لها قبل أقل من نصف قرن..!
لم أكن أدّعي أنني أعرف المفكر جورج طرابيشي، ولكن اهتمامي بالأدب جعلني أحفظ ماقاله عنه الكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ عن جورج طرابيشي بأنه الوحيد الذي فك رموز روايته الشهيرة (( الطريق)) ..
ولذلك قرأت تحليل جورج طرابيشي للرواية في كتابه: الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية، ثم قرأت ما كتبه وترجمه عن مدرسة سيغموند فرويد في علم النفس، ثم وجدت نفسي أغرق في عدد من كتبه ودراساته، وشيئا فشيئا ظننت أنني أعرفه، وكان ذلك وهما، ففي حلب اكتشفت عكس ذلك، وقلت له : الآن بدأت أعرفك !
لم أكن أتوقع اللقاء معه، إلا أن الكاتب (( وائل السواح)) ، وكان ذلك عام 2007، طرح علي فكرة إنجاز فيلم عنه يكتب هو( أي وائل) مادته الوثائقية، وهذا ماقمنا به، فالتقيته في حلب لإنجاز الفيلم، وانصتّ إليه وهو يحكي عن العقل العربي وعن خلافه مع صاحب كتاب((تكوين العقل العربي)) محمد عابد الجابري، وهو يجيب على كل التساؤلات المهمة التي كتبها وائل ..
لاحظ جورج طرابيشي قبل أن يموت أن سورية بحاجة إليه، وربما كانت حساسيته كمفكر تنطلق من تطوره الفكري الكبير الذي ظهر في كتبه في ربع القرن الأخير، فسعى إلى إقامة مؤتمر للعلمانيين في دمشق، نظمه وقتها الناشط (( لؤي حسين)) قبل أن اندلاع الحرب على سورية وتشكيله لتيار بناء الدولة المعارض !
عندما التقيت مع جورج طرابيشي بعد سنتين مرة ثانية، كان الفيلم الوثائقي عنه((3 أجزاء)) قد عرض عدة مرات في تلفزيون الدنيا، وكان صديق عمره ((عبد القادر النيال)) من بين من قدموا شهادات عنه ..
تناولنا العشاء في مطعم فندق عادي في دمشق، وكان مشغولا في الحوار مع عدد من الضيوف الموجودين على المائدة، وكنت أتلهف لأدعوه لزيارة إذاعة دمشق، ولكني لم أستطع!
راجعت الكثير مما كتب عنه ، وجدت أني اتفق معه في مجموعة أفكار مهمة راح يطرحها في تصريحاته الأخيرة التي تتعلق بالحريق الكبير الذي اشتعل في البلاد العربية منذ 2010، من بينها :
((إن إسقاط الأنظمة أسهل من بناء أنظمة جديدة، وقد يكون أقل كلفة من بناء أنظمة جديدة أيضًا))..
أن المرحلة التي مرت فيها أنظمة الحكم أنتجت أيديولوجيا ثابتة غير قابلة للتحول، الشباب قاطع هذه الأيديولوجيات ولا يملك خلفيات أيديولوجية..
سجل عنه الموقع الوطني السوري ((اكتشف سورية)) أنه ــ أي طرابيشي ــ مفكر وكاتب وناقد ومترجم عربي سوري، من مواليد مدينة حلب عام 1939. يحمل الإجازة باللغة العربية والماجستر بالتربية من جامعة دمشق عمل مديراً لإذاعة دمشق (1963-1964)، ورئيساً لتحرير مجلة «دراسات عربية» (1972-1984)، ومحرراً رئيسياً لمجلة «الوحدة» (1984-1989). أقام فترة في لبنان، ولكنه غادره، وقد فجعته حربه الأهلية، إلى فرنسا التي أقام فيها زمنا طويلا قبل وفاته متفرغاً للكتابة والتأليف.أي أن جورج طرابيشي هاجر مرتين : من سورية إلى لبنان، ومن لبنان إلى فرنسا ، ولم تكبّله الهجرة، أو تحجزه عن التفكير فيضيع في متاهات الغرب . هذا ما أحسسته وهو يتحدث إلي عند قلعة حلب، ويهمس قائلا:
ــ أخشى أن تضيع هذه البلاد التي أنتمي إليها !ّ