متى تندلع جولة الحرب القادمة بين “إسرائيل” وحزب الله؟
متى تندلع جولة الحرب القادمة بين “إسرائيل” وحزب الله؟.. تحرص “إسرائيل” على وضع الخطط اللازمة لمواجهة كلّ التهديدات والمخاطر التي قد تتعرَّض لها، أياً كان نوعها أو مصدرها أو حجمها، ولم يعرف عنها الإحجام أو التهرّب من المواجهة أو التقليل من شأن الأخطار المحدقة.
ومن ثوابت سياستها الأمنية التحسب لاحتمال أن تضطر يوماً ما إلى الدخول في مواجهة عسكرية على جبهات متعددة في وقت واحد، مثلما حدث في حرب 1967 على سبيل المثال، حين قرّرت خوض مواجهة عسكرية ضد 3 جيوش نظامية محتشدة على الجبهات المصرية والسورية والأردنية.
ومع ذلك، يلاحظ أنَّ “إسرائيل” تحرص في الوقت نفسه على أن تكون هي من يحدد توقيت وأشكال المواجهات التي يتعين خوضها، وعلى ألا تسمح لأحد باستدراجها إلى مواجهة عسكرية في توقيت لا تريده، كي تضمن أن تأتي نتائج المواجهة وثمارها متوائمةً، ليس مع توقعات الحكومة القائمة فحسب، ولكن أيضاً مع أوضاعها السياسية الداخلية من ناحية، ومع موازين القوى في الساحتين الإقليمية والدولية من ناحية أخرى، كي لا تضطر إلى التراجع أو التنازل عن بعض ما حققته من مكاسب في أيّ مواجهة تخوضها تحت ضغط قوى خارجية، صديقة أو معادية، مثلما حدث في حرب السويس عام 1956.
تدرك “إسرائيل” يقيناً، في تقديري على الأقل، ما يمثله حزب الله من تهديد بالنسبة إلى أمنها، وربما أيضاً بالنسبة إلى وجودها ذاته، وهي تتصرف دائماً على أساس أنَّ المواجهة مع هذا الحزب حتمية ولا يمكن تجنّبها، فهي قادمة لا محالة آجلاً أو عاجلاً.
لا يعود ذلك فحسب إلى شعور “إسرائيل” بأنَّ لها حسابات قديمة مع حزب الله تحرص على تصفيتها في الوقت المناسب، ولكن أيضاً لأنها تدرك أنّ كلّ وقت يمرّ يصبّ في مصلحته، ويساعد على تنامي قوته العسكرية والسياسية باطراد، ما يفرض عليها العمل على التعجيل بهذه المواجهة الحتمية، قبل أن يتحوّل التهديد الصغير والمرحلي إلى تهديد كبير ودائم، ومن ثم إلى معضلة غير قابلة للاستئصال أو الإزالة.
ورغم قناعتي بأنَّ “إسرائيل” تتابع ما يجري داخل حزب الله، ومن ثم تحرص على وضع خطط متواصلة لمواجهته والعمل على تحجيم خطورته، فإنَّ الحسابات الإسرائيلية على هذا الصعيد باتت معرضة في الوقت الحاضر للاصطدام بجملة من العقبات، يمكن إجمال أهمها على النحو الآتي:
العقبة الأولى: تتعلق بالعلاقة بين الحزب وباقي مكونات ما أصبح يعرف بمحور المقاومة في المنطقة. ولأنها علاقة تتطور إيجابياً وتقوى على الدوام، تخشى “إسرائيل” من احتمال تحول المواجهة المسلحة المحتملة مع حزب الله إلى مواجهة شاملة مع كل مكونات محور المقاومة في الوقت نفسه أو إلى حرب إقليمية واسعة النطاق، وهو احتمال لم يعد قابلاً للاستبعاد.
العقبة الثانية: تتعلَّق بتغير التكتيكات المستخدمة من جانب الحزب في تعامله مع “إسرائيل”، فقد انتقل أخيراً من خندق الدفاع إلى موقع الهجوم، وخصوصاً بعدما أعلن على لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله أنَّه سيقصف حقول استخراج الغاز الإسرائيلي على امتداد ساحل المتوسط فور إقدام الحكومة الإسرائيلية على استخراج الغاز من حقل كاريش المتنازع عليه مع الدولة اللبنانية.
ولأنَّ “إسرائيل” قامت منذ عدة شهور باستقدام سفينة متخصصة في استخراج الغاز وتسييله، دخلت بالفعل إلى منطقة حقل كاريش المتنازع عليها، فقد تمكَّن الحزب من أخذ زمام المبادرة في أي مواجهة عسكرية قادمة، وهو ما يعد تطوراً جديداً في سياق المواجهات الممتدة بين “إسرائيل” وحزب الله على مدى العقود الأربعة الماضية.
العقبة الثالثة: تتعلق بمدى مواءمة الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية الراهنة لاندلاع حرب جديدة في المنطقة، وخصوصاً على الجبهة اللبنانية. على الصعيد المحلي، تبدو “إسرائيل” مشغولة بالاستعداد للانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في بداية تشرين الثاني/نوفمبر القادم. ولأنه يصعب على حكومة تصريف أعمال أن تتخذ قراراً بالمبادرة إلى شن حرب إجهاضية أو وقائية على حزب الله، وخصوصاً حين يكون احتمال تحولها إلى حرب إقليمية أمراً وارداً، فمن المرجح ألا تندلع قبل إجراء هذه الانتخابات.
على الصعيد الإقليمي، ما تزال المفاوضات غير المبشرة جارية بين إيران والولايات المتحدة حول بحث سبل عودة الأخيرة إلى الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني الموقع عام 2015، ولم يغلق ملفها نهائياً، بعد رغم تعثر مسارها.
ولأن “إسرائيل” تصرّ على وضع العراقيل أمام هذه المفاوضات، وتسعى لإفشالها بكل الوسائل المتاحة، فليس لديها مصلحة واضحة في الدخول الآن في أي مواجهة عسكرية مع حزب الله. وعلى الأرجح أن تعمل على تأجيل أي مواجهة محتملة إلى ما بعد حسم ملف العودة الأميركية إلى اتفاق 2015، على أمل أن تنجح، ليس في إفشال مفاوضات العودة فحسب، ولكن أيضاً في استمالة الولايات المتحدة للمشاركة معها في أي عمل عسكري تقرره مستقبلاً، والذي سيستهدف في هذه الحالة تصفية حساباتها مع محور المقاومة ككل، وليس مع حزب الله فحسب، وتلك هي الغاية الأسمى!
على الصعيد الدولي، تشير كل المؤشرات إلى أنَّ الحرب المشتعلة في الساحة الأوكرانية بين روسيا وحلف الناتو تتجه نحو التصعيد، وليس نحو التسوية، ولا يستبعد مطلقاً أن تكون الشرارة التي قد تشعل حرباً عالمية ثالثة، وهو تحول، إن حدث، فسوف تخضع لحساباته كل الأزمات الإقليمية الأخرى، ما سيجعل من الصعب على أي طرف إشعال حروب أخرى في أي منطقة في العالم خارج حسابات القوى العالمية.
من المعروف أنَّ “إسرائيل” كانت قد أعلنت منذ شهور عزمها على الشروع في استخراج الغاز من حقل كاريش، وحدَّدت أول شهر أيلول/سبتمبر الجاري موعداً لهذا الاستخراج، غير أنَّ الولايات المتحدة، ولقطع الطريق أمام احتمال اندلاع مواجهة عسكرية مسلحة بين “إسرائيل” وحزب الله، سارعت إلى إرسال موفدها آموس هوكستين لبدء جولة جديدة من الوساطة بين الحكومتين الإسرائيلية واللبنانية، أملاً في التوصل إلى اتفاق حول ترسيم الحدود البحرية بين البلدين. ويتردّد في بعض الأوساط الرسمية والإعلامية أن جولة هوكستين الأخيرة أحرزت تقدماً ملموساً يوحي بأنَّ الاتفاق بات في متناول اليد وأصبح وشيكاً.
ولأن الحديث عن هذا التقدم تزامن مع إعلان الحكومة الإسرائيلية تأجيل عملية استخراج الغاز من حقل كاريش إلى شهر تشرين الأول/أكتوبر القادم، يرى كثيرون في هذا التصرف مؤشراً على ما أصاب الحكومة الإسرائيلية من تخبط عقب تهديدات نصر الله، وتعبيراً عن التراجع أمام تلك التهديدات.
صحيح أن الحكومة الإسرائيلية بررت التأجيل بأنه تم “لأسباب فنية”، وصحيح أيضاً أن يائير لابيد، رئيس الحكومة الإسرائيلية، صرح بعدم وجود أي علاقة بين تأجيل استخراج الغاز من حقل كاريش وتهديدات نصر الله، مؤكداً أن “إسرائيل” لا تنتظر التوصل إلى اتفاق مع الحكومة اللبنانية حول ترسيم الحدود البحرية كي تبدأ باستخراج الغاز من حقل “يقع داخل حدودها البحرية، وهي التي ستقرر بنفسها متى وكيف تستخرج الغاز منه”، غير أن معظم المراقبين يرون في هذا التصريح نوعاً من المكابرة، ويستخلصون منه أن “إسرائيل” لا تريد الحرب الآن، وأنها تأخذ تهديدات نصر الله بأقصى درجات الجدية.
لكن هل يعني ذلك أنَّ “إسرائيل” باتت جاهزة ومهيأة للقبول باتفاق للترسيم يرضي الحكومة اللبنانية ويحافظ على حقوقها في غاز المتوسط؟ ليس بالضرورة، فالكلّ يدرك أن “إسرائيل” كانت، وما تزال، هي السبب الرئيسي في حرمان لبنان حتى الآن من إبرام الاتفاقيات الدولية التي تمكنها من استخراج الغاز من حقولها في البحر المتوسط، وبالتالي فإن إقدامها على تغيير موقفها الآن بالموافقة على اتفاق يرضي الحكومة اللبنانية ويسمح لها بممارسة حقوقها السيادية على ثروات بلادها الطبيعية، إن تم التوصل إليه بالفعل، سيفسّر أنه رضوخ لتهديدات السيد نصر الله، وسيؤدي حتماً إلى تعظيم مكانة حزب الله في معادلة السياسة على الصعيدين اللبناني والإقليمي، وهو ما ترفضه “إسرائيل” رفضاً قاطعاً.
لذا، أرجّح أن تواصل “إسرائيل” مناوراتها الدبلوماسية الرامية إلى الإيحاء بأنها تتبنى موقفاً مرناً من قضية ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، وربما تقدم عروضاً للترسيم يصعب على حزب الله قبولها والتجاوب معها، كي تحمله مسؤولية فشل وساطة هوكستين، على أمل كسب الوقت إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية القادمة. وعندها، سيصبح لكل حادث حديث.
لذا، يبدو أن شهر تشرين الثاني/نوفمبر القادم سيكون نقطة تحول في تاريخ المنطقة والعالم، ليس لأنه سيشهد انتخابات تشريعية شديدة الأهمية في كلّ من “إسرائيل” والولايات المتحدة الأميركية فحسب، ولكنه أيضاً سيكون مقدمة لشتاء أوروبي مختلف تماماً عن كل ما مرت به من قبل.
هذه الأمور الثلاثة التي تبدو متداخلة ومتشابكة عضوياً ستكون النقطة التي سيتحدد عندها الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر بالنسبة إلى قضايا السلم والحرب، ليس في المنطقة فحسب، إنما في العالم ككل أيضاً.
الانتخابات الأميركية ستحدد ما إذا كانت إدارة بايدن ستفوز فيها بأغلبية مريحة في الكونغرس بمجلسيه، تمكنها من التعامل بحسم مع الأزمات والتحديات الخطرة التي تواجه المنطقة والعالم، والانتخابات الإسرائيلية ستحدد ما إذا كانت النخبة السياسية في “إسرائيل” قادرة على تجاوز أزمتها وإفراز حكومة أكثر تجانساً وقدرة على التعامل مع تحديات المنطقة.
وكلَّما اقتربت أوروبا من فصل الشتاء، سيتضح أكثر ما إذا كانت قادرة على الاستغناء فعلاً عن الغاز والنفط الروسيين، ومن ثم ستظل متماسكة وموحدة خلف القيادة الأميركية الراغبة في تحويل الحرب الدائرة في الساحة الأوكرانية إلى حرب استنزاف طويلة الأمد لروسيا.
بعبارة أخرى، يمكن القول إنه مع نهاية تشرين الثاني/نوفمبر القادم، سيكون قد اتضح بالفعل:
1- ما إذا كانت الولايات المتحدة ستعود إلى الاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي.
2- ما إذا كانت الحرب الدائرة في الساحة الأوكرانية ستتصاعد، وستتحول إلى حرب عالمية ثالثة أم ستصل سريعاً إلى النقطة التي يتوجب عندها البحث عن تسوية سياسية.
3- ما إذا كانت “إسرائيل” ستوقع اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية مع لبنان.
تلك كلّها قضايا ستحدد بشكل أو بآخر ما إذا كان العد التنازلي للحرب الحتمية بين “إسرائيل” وحزب الله قد بدأ بالفعل أم أنه سيتراجع إلى أجل غير مسمى.
الميادين نت