محاكمة كافكا الأخرى .. الوجه الغرائبي لشخصية الكاتب

قد لا يمانعُ قاريءُ النصوص الأدبية في البحث عن الخيوط الواصلة بين حياة المؤلفِ وما يتابعهُ، وهذا عنصر في عملية القراءة أياً كانت درجة التحايل والإلتفاف فإنّ ذلك لا يثني المتلقي من المضي بحثاً عن مؤثرات حياة الكاتب وتجاربه الشخصية في عمله الإبداعي، طبعاً فإن عدداً من الكتاب لا ينكرون بدورهم ما يرشحُ إلى تضاعيف أعمالهم من واقعهم المعيشي غير أن تفوق غرابة شخصية الكاتب وتوتراته على ما تجده في أعماله المُصنفة في أدب اللامعقول والكابوسي. فهذا أمر غير متوقع حتى بالنسبة لشخصة كاتب مثل فرانز كافكا الذي يعدُ رائداً للأدب الغرائبي والكابوسي.

لكن ما يضمهُ كتاب “محاكمة كافكا الأخرى رسائل كافكا إلى فيلس” الصادر من دار جداول، من تأليف الكاتب الألماني إلياس كانيتي يضعك أمام عالم صاحب “المسخ” وهو صاخبُ بالقلق وبالوساوس الداخلي إذ يدرس المؤلف حياة كافكا إنطلاقاً من علاقته الغريبة مع فيلس بوير.

اللقاء الأول

تعرف كافكا على الأخيرة في شقة تخص عائلة ماكس برود سنة 1912 ويتأثر بتلك الفتاة لأول وهلة إذ يفصح بذلك في مراسلاته لماكس برود ومن ثم يبدأُ بمراسلتها مباشرة في سبتمبر/أيلول هذه السنة. ويذكرها بكلامهما حول زيارة إلى فلسطين والصور التي أخذها في رحلته إلى تاليا. يسردُ الكاتبُ تفاصيل الأيام التي أمضاها كافكا برفقة ماكس فايمار وزيارته إلى بيت غوته ومعرفته بابنة القيم على البيت ويمرر تلميحاً إلى إعجاب كافكا بتلك الفتاة. غير أن الأخيرة فضلت مصاحبة الطلاب. 

يعودُ كافكا من جديد إلى الحديث عن اللقاء الأول ويذكر فيلس بمرور خمسة وسبعين يوما على رؤيتهما للبعض. مؤكداً لها بأنَّه مافا تته أي تفصيلة صغيرة في شخصيتها لافتاً إلى أنه مثل فلوبير الذي يهمه توصيف دقائق الأمور. وفي سياق ذلك يشير إلياس كانيتي إلى تجربة كافكا في المصحة في يونجبورن وشروعه بكتابة اليوميات التي يعتبرها المؤلف أفضل يوميات لرحلات كافكا. مُلاحظاً وجود صلة قوية بينها وبين رواية “أميركا”.

ويرى صاحب “أصوات مراكش” أنَّ كافكا قد أصبح جاهزاً في هذه الفترة لإكمال كتابه الأول “تأملات” بتشجيع من برود إذ أعجبته مُصاحبةُ أسرة برود وارتاح لهم كما اندهش عندما ذكرت فيلس بأنها درست العبرية وأبدت ملاحظتها حول الطعام مستعيدة ذكرى الطفولة وتعرضها للضرب المبرح.

تطورت المراسلةُ بين كافكا وفيلس إلى درجةٍ يومياً كان يتمُ تبادل الرسائل بينهما، تظهر محتوياتها عن شكاوى كافكا من أحواله الجسدية، إلى جانب كتابة الرسائل بالإنتظام يُنجز بعض أعماله القصصية مثل الحكم والسكتة دون التسويف ويُضيفُ فصولاً جديدة إلى رواية “أميركا”.

لا يقفزُ الكاتبُ على شخصية فيلس بل يصفها بأنها كانت بسيطة بناءً على ملاحظاتها التي يقتبسها كافكا في رسائله. أكثر من ذلك فإنَّ ما يتخلص إليه القاريءُ أن كافكا يغارُ على فيلس وإن متابعة الأخيرة للكتاب الآخرين أثارت تحفظَ صاحب “المحاكمة”. وهذا ما يعني أيضاً أنَّ فيلس قارئةُ مميزة. لذلك يعبرُ كافكا عن سعادته عندما يرسل إليها كتابه “تأملات”، “كم سعيد للتفكير أن كتابي بالرغم مما أجده فيه من خطأ هو الآن في حوزتك” تنمُ الكلمات عن الحب الكامن والإعجاب الشديدين لفيلس.

تقلبات

لا تشهدُ حياةُ كافكا إستقراراً على الصعيد النفسي فهو يظلُ نهب قلقه وهواجسه الكابوسية صحيح أنَّ تواصله مع فيلس انعكس إيجابياً على نشاطاته الإبداعية مما يلفتُ النظرَ أن زواج أخته وارتباط صديقه ماكس برود زاد من حدة توتر لدى كافكا ويفسرُ إلياس كانيتي الأمر بأنَّ ترتيبات ما قبل الزواج قد أفزع كافكا وخلف لديه الشعور بالنفور. عليه تتخذُ فيلس صورة الخطر في ذهن كافكا وتختفي تلك المرأة التي اعتبرها سنداً تحت مخاوفه المُتصاعدة من الحياة الزوجية.

ويكشف في إحدى خطاباته لفيلس ما تعني له الكتابة وضرورة القيام بالمناورة في ظل حياةٍ يعوزها الوضوح. “أسلوب حياتي موجه للكتابة .. الوقت ضيق، مقدرتي محدودة والمكتب مرعب”. كما يبوحُ لها بأنَّه أصبح منحلاً مع كل من يعرف مشيراً إلى أيامه في المصحات.

يستفيدُ إلياس كانيتي بما تتضمنهُ رسائل كافكا لماكس برود ويومياته لاستبطان شخصية كافكا أكثر والإبانة عن صراعه مع تكوينه الجسدي والآخر في آن واحد. إنَّ موضوع الجسد وهواجسه بشأن نحوله يشغلُ كافكا ويتطرقُ إليه ضمن رسائله إذ يسرُ لماكس برود برغبته بأن يكون سميناً. والغريب في الأمر أنَّ رائد الإتجاه الغرائبي يصفُ هذه الفكرة بالسخيفة. كما يتوقف عند هذا الأمر في رسالة إلى فيلس موضحاً ما كان يشعر به في الحمامات المُختلطة، وما يسببُ له نحوله من الإحراج.

يصل به التوتر إلى حدٍ يشك بمن لديه المواصفات الجسدية المماثلة لتركيبته، يحكي عن زيارته للطبيب في رسالة أخرى لفيلس مُبدياً ارتياحه بحس الدعابة لدي الطبيب لكن ما يثير قلقه أن هذا الشخص يتصفُ ببنية جسمانية مماثلة من حيث الطول والنحافة لما عليه جسم كافكا.

ولا يتجاهل الموضع ذاته عندما يراسلُ والده مقارناً بين الأخير وبينه على المستوى الجسدي. إذاً يتخلصُ الكاتبُ إلى أن الموت ونحول الجسد مطابقان لدى كافكا. جانب آخر من شخصية كما يتبدى في رسائله هو نفوره من الإختلاط مؤكداً على أنَّه لا يمكنُ أن يعيشَ مع الناس ولا يحبذُ وجود زوار في غرفته. ويعلنُ بالوضوح تبرمه من مُحادثة الآخرين واصفاً نَفْسَهُ بأنَّه شخص ميئوسُ منه بالنسبة للعلاقات الإجتماعية.

ضفْ إلى ذلك تخوفه من أن يكون أباً مع أنَّه يعترفُ ما يعيشهُ الإنسان من التعاسة دون الأطفال بيدَ أنَّه لن يتجرأَ على اختبار هذه التجربة. مايذكرك بإبي علاء المعري وأميل سيوران. لن يكتفي كافكا بِمُراسلة فيلس بل يلحُ على اللقاء إلى أن تحتفلَ أسرة بوير بخطوبة ابنتها بكافكا.

وما يمرُ كثيرُ من الوقت حتى تُفسخُ الخطبةُ ويُحاكمُ كافكا في فندق أسانيش ويعتقدُ ألياس كانيتي أن هذا الموقف قد ألهم كافكا بكتابة روايته الذائعة الصيت “المحاكمة” ومفهوم المحاكمة ليس عبارة فقط عن مؤسسة قانونية تعاقبُ المُخالفين للقوانين إنما المحكمة عند كافكا هي القوة التي تحاكم لأنها قوة على حد تعبير ميلان كونديرا.

وعقب فسخ الخطوبة لا ينقطعُ كافكا عن مراسلة فيلس فضلاً عن دراسة وتتبع ما كان قائماً بين كافكا وفيلس يتناولُ ألياس كانيتى رؤية كافكا للتحول وتأثره في هذا المجال بالبوذية، ولم يكفْ عن مشاهدة الحشرات، وما تمرُ بها وبرأي المؤلف كان كافكا يمقتُ التقاليد البرجوازية رافضاً أي تقيد بشروطها.

هذا الكتاب ليس دراسة نقدية ولا سيرة ذاتية بل هو نص جميل يفصحُ كانيتى عن افتتانه برسائل كافكا على حد تعبير عبده وازن.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى