محاولات لفهم الشخصية المصرية في روايات فتحي إمبابي
خرج الروائي فتحي امبابي من عباءة جيل السبعينات، وهو الجيل الذي جاء إبان لحظة تاريخية مربكة (بعد هزيمة يونيو 1967) فأصبحت مهمة تحرير الأرض المغتصبة ضمن المسؤوليات التاريخية للجيل المسكون بهواجس وقضايا الحرية والعدالة والديمقراطية.
بدأ إمبابي الكتابة مبكرا، فدفعه ميله للتجريب والتركيب للالتحاق بكلية الهندسة التي تخرج فيها عام 1974، ليعمل مهندسا للأنفاق، وقادته ظروف العمل لرحلات إلى ليبيا والعراق والمجر ثم العودة إلى ليبيا، وفي نفس الوقت بدأ رحلة قراءة موسعة في التاريخ ليعرف سر الشخصية المصرية التي تعبر عند الأزمات عن حيوية وطاقة شديدين، عن ذلك الهاجس يقول “سؤال الهوية هو القضية الكبرى التي تؤرقني وتشغلني طول الوقت، كنا قبل عام 67 لدينا معرفة واضحة بكينونتنا ودورنا، ولكن بداية من الهزيمة ووصولا إلى الانتصار، والذي تحول إلى فعل فردي ينسب لشخص الرئيس لا لشعب، بدأ التحول يظهر على السطح بقبول معاهدة السلام ومن ثم اشتباك الناس بشكل سلبي مع الواقع، هذا لا ينفي دور المثقفين ورفضهم، أصبحت الشخصية المصية تميل أكثر إلى عدم الوضوح، كنت في كتاباتي أبحث عن ماهية ما وصلنا إليه”.”
روايته “نهر السماء” استلهمت العقود الأخيرة من عمر دولة المماليك، وهي نفسها الفترة التي سبق أن استلهمها سعد مكاوي ومحمد جبريل وجمال الغيطاني ومجيد طوبيا وغيرهم، ففيم اختلفت روايته عن غيرها؟ يقول فتحي إمبابي “نحن بالفعل أمام متوالية قام فيها كتاب كثيرون بالتعامل مع تلك الفترة من الماضي واستخدامه لصالح صور متعددة، سعد مكاوي نظرا لما عاناه بشكل شخصي من الطابع الاستبدادي للحكم الناصري، ونظرا للرقابة المشددة في ذاك الوقت، توجه للتاريخ للقيام بعملية اسقاط لأحداث راهنة على واقع مماثل في العصر المملوكي طبقا لرؤيته. انه نوع من الهروب سواء من الرقابة آو الرقيب، أو رجل الأمن.. أما جمال الغيطاني فاختار رجل الأمن ليكون بطله في روايته الزيني بركات، ولم يكن يمكن له أن يتناول ذلك بصورة مباشرة.
أما رواية “نهر السماء” ففيها استكشاف مباشر لحفرية حقيقة تتناول الجمود الثقافي والسياسي والاجتماعي لدي الجماعات البشرية، فهي أعمق من أن تتعلق باسقاط الحاضر على الماضي، بل هي اكتشاف للماضي نفسه، وهناك أمران تجليا من خلال رواية نهر السماء؛ الأول يتعلق بالصدمة التي كشفت عنها الرواية حين تبين لي أن الدولة المملوكية كانت تمثل لست قرون متواصلة ظاهرة ممتنعة عن الوجود، تتمثل في حكم (العبيد المجلوبين) للأحرار الممثلين في (الفلاحون)، وهذه حقيقة مفزعة كائنة أمام العين، لكنها في الوقت ذاته مخفية بمهارة وحزق تحت اللغة المزورة للتاريخ الرسمي المكتوب، إنها استخدام للزيف الكامن في اللغة، والتي تبين أنها الطريقة الماهرة لتزيف الوعي وتعطيل العقل الجماعي للأمة.
والثاني: الدعم الذي كانت تقدمه المؤسسة الدينية للسلطة، حتي ولو كانت جماعة منتجة للعبودية، إنه الاختيار بين أن تكون المؤسسة قاطرة للحرية والتقدم، فتكون قادرة على مواجهة ظاهرة غير طبيعية، أو أن تشارك في دعمها وتبرير عسفها وظلمها للفقراء والمعدمين مقابل قدرا يسيرا من المنافع.”
تغريبة المصري في بلاد النفط تناولها فتحي إمبابي في “مراعي القتل”، وفي “عتبات الجنة” استعاد تغريبة الضابط المصري في أعالي النيل، يقول الروائي “دعني أولا أعترض على استخدام مفهوم الاغتراب، ففي الحالة الأولى كانت الوحدة العربية من الخليج إلى المحيط، ولا تزال وستبقى مطلبا تفرضه قانون المصالح العامة للشعوب العربية، كما أن الوجود المصري في منابع النيل هو أمر طبيعي يتعلق بالجذور التاريخية والثقافية للمصريين.
من جهة أخرى عانى المصريون من القهر في بلادهم فكانوا فريسة سهلة لخشونة البدو في بلاد النفط، رغم أن الظروف الاجتماعية التي دفعت إلى الهجرة نجمت بصورة مباشرة عن الحروب التي خاضتها مصر، بينما كان الوجود العسكري المصري في أعالي النيل ستكون خالية من الامتهان بسبب تواشج الضباط مع السلطة وقوة وجودها.
وهكذا يمكن القول إن الاختلاف بين امتهان المواطن المصري، على عكس التقدير الذي لاقاه الضباط المصريون والسودان العربي والأفريقي ناجم عن الاختلاف الحادث لأسباب وجودهم، والاهمال الذي لاقاه المواطن من وطنيه المصري والعربي، وبين وظيفة السلطة العسكرية وما تحمله من القوة، دون التغاضي عن المعني الوجودي والاخلاقي والسلوكي والحضاري للجيش المصري أعالي النيل.
وعن عودته للفضاء الليبي في “العلم” يعد ربع قرن من روايته الأولى “العرس” يقول في الحقيقة أن روايتا العرس والعلم كتبتا في نفس الوقت، وكانتا تعالجان أحداثا جرت في نفس الزمن، وذلك في ظل بلوغ الثورة الليبية أوج قوتها عامي (1975، 1976، 1977)، هما جزءان لرواية واحدة تعبران عن عالم واحد ولكن من زاويتين مختلفتين، رواية “العرس” عبرت عن صراع الهويات العربية في سوق العمل لمجتمع نفطي يدعي التقدمية، رواية “العلم” تعبر عن الصراع الناشب في المجتمع الليبي ذاته، والنتائج الملازمة لدخول المجتمعات النفطية العربية لعالم الحداثة، في ظل التزايد المتسارع للثروة التي جاء بها النفط، وأزمة المرآة الليبية وما تعانيه من ظلم وكبت مريع.. أما الفارق الزمني في النشر، فيعود إلى الصعوبات المتعلقة بالنشر، وكسل الحركة النقدية في تناول أعمالي، ما الذي دفعني لتأخير نشر الرواية الثانية.
وعن عودته للتاريخ في “عتبات الجنة” بعدما نزل نبعه في “نهر السماء” يقول “نهر السماء تتناول لحظة فارقة في تاريخ الجماعة المصرية، وهي نهاية عصر المماليك بينما تدور أحداث عتبات الجنة في مسرح جغرافي هو نهر النيل؛ منبع الحياة لدى شعوب حوضه، ويرتبط زمن الرواية ببدء تكون الجيش المصري الوطني، وهو ليس جيش المماليك أو جيش محمد علي باشا.
الجيش في الرواية هو أول جيش مصري في العصر الحديث مكون من أبناء الفلاحين، والعملان لا ينتميان إلى ما يسمى بالرواية التاريخية. رغم أن كل رواية هي تاريخية بصورة ما، لكن غالبية أعمالي الروائية تتعلق بمحاولة فهم مغاليق الشخصية المصرية، وحل طلاسمها، والتعرف على هوياتها المضمرة والصراعات التي أدت بها إلى ما هي عليه الآن”.
وأضاف إمبابي “تلك قضيتي في الأعمال غير السردية مثل ‘الطريق إلى الجمهورية البرلمانية.. شرائع البحر الأبيض المتوسط القديم’ أو في رواياتي وآخرها ‘منازل الروح” وهو الجزء الثاني من عتبات الجنة، حيث أتابع حكاية الضباط وهم يمضون في أعالي النيل تحت العلم المصري وروحهم مسكونة بنهر النيل الذي ينبع كما في الأساطير القديمة من الجنة”.
ميدل ايست اون لاين