محمد الماغوط… النبرة الخشنة في الشعر العربي الحديث
أودع محمد الماغوط (1934- 2006) جيل الانتفاضات العربية التي هبّت رياحها بعد رحيله، كل ما يحتاجه هذا الجيل لجهة الغضب والسخط والتمرّد، وبدا كأن ما كتبه طوال نصف قرن، فاتورة مسبقة الدفع، ووصفة جاهزة لحساء الحرية المشتهاة، ومعجماً كاملاً في توصيف أحوال الكرامة المهدورة، وعسف الطغاة، وآلام المحزونين.
فعبارة مثل «الطغاة كالأرقام القياسية، لا بد أن تتحطّم في يومٍ من الأيام» أتت كمعجزة أرضيّة، تلقفها فرسان الميديا الجديدة على صفحاتهم، بوصفها قنبلة موقوتة ستنفجر على بعد شارعين من الثورة الموعودة، لكن هؤلاء لم ينتبهوا جيّداً إلى أن نفير صاحب «غرفة بملايين الجدران» لم يخدش حياء طاغية يوماً، ولم يترك ندبة في جبين حارس سجن، أو في ضمير لصّ، فهو كان يحرث في أرض اللغة وحدها، ويبحر في سفينة مثقوبة من الحبر الجّاف. ليس هذا التوصيف انقلاباً على منجز هذا الشاعر العظيم، بقدر ما هو محاولة لقراءة التأثيرات الجانبية لقدرة الشعر على إحداث البراكين، سواء في حياة أو غياب صاحبه، إذ لطالما سعى صاحب «سأخون وطني» خلال حياته إلى ضخ نصوصه بجرعات عالية من الرفض وكتابة الضّد، بقصد ترميم كسور وطنٍ جريح، وبشرٍ مخذولين، وعجلات تاريخ معطّل، لكن وطنه بقيّ وهميّاً، بلا تضاريس ملموسة، وهو ما أفسح المجال أمام نصوصه كي تعبر مخافر الحدود من دون رضوضٍ جانبية، مكتفياً بصناعة المفارقة المبتكرة التي لا تؤرّق رقيباً بعينه، وفي الوقت نفسه لا تتخلى عن إحداث الدهشة، أو الصدمة اللغوية، كما في الحكاية المشهورة التي رواها مراراً عن «صوبيا» الحزب القومي، فهي تقع في باب الكوميديا السوداء أكثر منها تراجيديا معاشة فعلاً، وحين خفتَ تأثيرها، أضاف إليها اعترافاً آخر، وهو أنه كُلف بجمع اشتراكات للحزب ثم صرف ما جمعه من الرفاق في شراء بنطلون، ولم يطرق باب مقرّ الحزب ثانيةً. براعة الماغوط إذاً، تتجسد في إنشاء مدوّنة ضخمة من المانشيتات المثيرة التي قد لا يعنيها تماماً، أو لا تتطابق مع رأيه الجدّي حيالها، كأن يقول: «لدي أغنية «كيفك أنت» لفيروز أهم من شعر البحتري»، أو «أكره الضجر والشيوعيين»، كما أنه سيسخر من أعضاء جماعة «مجلة شعر» بعد مغادرته الخيمة التي رفع أعمدتها يوسف الخال في العراء، بقوله: «قل لأحدهم ثلاث مرات «المتنبي» يسقط مغمى عليه، بينما قل له «جاك بريفير» فينتصب ويقفز عدة أمتار عن الأرض». هذه المواقف سيناقضها في أماكن وأزمنة أخرى بسرديات مضادة، فالمهم أنها أدت مقاصدها في حينها. أدرك صاحب «سيّاف الزهور» نفاد ذخيرته الشعرية باكراً، فهو أنجز ثلاث مجموعات شعرية، خلال فترة قصيرة نسبيّاً (1959- 1970) مشحونة بأقصى طاقة اللغة على ابتكار الصورة الشعرية المغايرة، ولكن من دون نتوءات بين تجربةٍ وأخرى، فنحن لن نجد فرقاً واضحاً بين قصائده الأولى وقصائده الأخيرة، لجهة قوة السبك، وكثافة المعنى، وعمق الصرخة. وسوف يعوّض خسائره في الشعر بهجنة نصيّة هي مزيج من الخلائط الشعرية والبلاغية من جهة، ومفردات السخط، ومظالم الكائن البشري المسحوق في عيشه وتطلعاته وصبواته، من دون أن يبيعه الأمل يوماً، من جهةٍ ثانية. كان رصيده الشعري النفيس إذاً، رافعة ثقيلة لكل ما كتبه لاحقاً في حقولٍ إبداعية أخرى. هكذا اقتحم المشهد مثل حصان طروادة شعرياً، ليزعزع طمأنينة الأصدقاء قبل الخصوم، بقصيدة غارقة في وحل الشوارع، وأمراض الوحشة، والتسكّع، والذعر. قصيدة دنيويّة لم تخرج من مختبر سوزان برنار، أو عزرا باوند، أو إليوت، وفقاً لتطلعات أباطرة الحداثة، فهذا «رامبو» قروي، تشقّقت قدماه من التشرّد والجوع والرعب، اختزل المسافات بقفزةٍ واحدة، من «السلميّة» مسقط رأسه، إلى «سجن المزّة» الذي شهد كتابة أولى قصائده على ورق السجائر، إلى بيروت الستينيات.
في هذه المدينة الصاخبة، سيكتشف معنى الحرية، اختصاصه الوحيد، كما يقول، وسيأخذ التسكّع مسلكاً آخر، يغذّي مغامرته الشعرية من الداخل بكيمياء بلاغية مدهشة، من دون أن يلتفت جديّاً إلى هوية قصيدته، ولمن تنتمي، فقد كانت الغريزة والعاطفة لا العقل، هما من يتحكّم بمجراها الأصلي. وسوف يجد في حطام بشري آخر هو بدر شاكر السيّاب الذي التقاه بالمصادفة، صديقاً حميماً دون سواه، يذكّره بجانبٍ من سيرته في البؤس، وسيرثيه لاحقاً بواحدة من أجمل قصائده، كما لو كان يرثي نفسه «أيها التعس في حياته وموته/ قبرك البطيء كالسلحفاة/ لن يبلغ الجّنة أبداً/ الجّنة للعدائين وراكبي الدراجات». بمغادرته بيروت أواخر ستينيات القرن المنصرم عائداً إلى دمشق، انطفأ الماغوط شعرياً. كأنه فقد الشريان الحيوي لقصيدته المضادة، فبعد «الفرح ليس مهنتي» (1970) طوى دفاتره الشعرية، واتجه إلى كتابة المقال الصحافي، من دون أن يتخلّى عن نبرته الشعرية الخشنة والغاضبة. ازدادت جرعة السخرية مستلهماً أفكاره من وقائع محنٍ عربية متوالدة على الدوام، ومن أوطانٍ محتضرة، وعولمة متوحّشة، من دون أن «يتورّط» في فحص التضاريس المحليّة لبلاده عن كثب. نصوص غائمة تتهم الجميع، بلا تسميات دامغة، محمولة على بسالة لفظيّة في المقام الأول. كما سينخرط في أعمالٍ مسرحية «شعبيّة» تفترق جذريّاً عن مناخاته في»العصفور الأحدب» و»المهرّج»، فأحسّ لأول مرّة في حياته بطمأنينة العيش والاستقرار والشهرة، بعد طول تشرّد، ولم يعد معقولاً أن يستعيد صورة متسكّع الأرصفة الأبدي التي بنى عليها عمارته الشعرية الشاهقة، مستبدلاً ذلك بسخريات مرّة من «شعراء الهبوط والإقلاع وقاعات الترانزيت». هكذا وجد في مراودة اليومي بأطيافه المتعدّدة «المادة الخام» لتطريز نصوصه بمفارقات لا تنتهي، ومشاكسات مرحة. لكن جرأته في الاشتباك مع القضايا الكونيّة الساخنة والمرعبة والمستبدة، كانت تثير الرضا أكثر مما تثير الغضب الرسمي. وفي المقابل لم يرفض الأوسمة والنياشين والجوائز، في أواخر حياته، معتبراً إياها مكافأة نهاية الخدمة وحسب. لكنه سيبقى «شعرياً» حطّاب الأشجار العالية بفأسه الحادة وصراخه البرّي، وحرمانه الطويل، فهذا الحطّاب اللغوي لم يكتفِ ببضعة أغصانٍ يابسة لإشعال موقده، بل أراد إحراق الغابة كلها، وإذا به يؤسطر صبوات الفرد المهزوم والأعزل والمهمّش، من دون أقنعة، أو محسنات بديعية، أو مساومة. شاعر حطّم أصابع البيانو واستبدلها بعويل القصب. هذه الفرادة المدهشة في اصطياد العادي ومنحه بريقاً خاصاً، أوقع شعراء الأجيال اللاحقة في فخاخه من دون أن يتجاوزوا معجمه النفيس، أو اكتشاف سرّ عناصر خلطته الشعرية، ونكهة مفرداته، فطوبوه بالإجماع أباً شعرياً لقصيدة النثر بامتياز، تلك التي تُلمس باليد مثل ثمرةٍ ناضجة، فهو لم يكن يوماً، أسير نظرية شعرية، أو حبيس أسطورة، أو ميتافيزيقياً، وحتى حين كتب نصوصاً طليقة ظلّت عصيةً على التجنيس، من دون أن يتخلّى عن عكازيه الشعريين «واو العطف»، و»كاف التشبيه» كقوله: «أخذوا سيفي كمحارب/ وقلمي كشاعر/ وريشتي كرسّام/ وقيثارتي كغجري/ وأعادوا لي كل شيء وأنا في الطريق إلى المقبرة/ ماذا أقول لهم أكثر مما يقوله الكمان للعاصفة».
في أيامه الأخيرة، واجه «البدوي الأحمر» خيانات الجسد، وحيداً، وزاهداً، وضجراً. لا يغادر أريكته الزرقاء إلا على كرسيٍ متحرّك، يتأمل صوره المرسومة على الجدار المقابل، وأغلفة مجلة «الكواكب» القديمة التي أمر بتعليقها على حائطٍ آخر، مستعيداً زمن فاتن حمامة، وسعاد حسني، وأخريات. ينصت إلى العتابا بحناجر مغنيي البادية برفقة الربابة وحدها، كأنه يطلب الغفران من الأرض التي غادرها باكراً، وها هو يستعد للعودة الأبدية إليها، بما يشبه بروفة أوليّة للموت. الموت الذي سيخطفه مطلع الربيع (3 نيسان/ إبريل)، ليشيّع في جنازة حاشدة.
مرجعية الشعر اليومي
لا يوجد شاعر سوري ممن اتجه إلى قصيدة النثر، في سبعينيات القرن المنصرم وما تلاها، لم تصبه لعنة محمد الماغوط بجرحٍ بليغ في الركبة، أو ندبة في الجبين، أو بلطخة حبر في الأصابع.
بثلاث مجموعات شعرية استولى على أرض شاسعة وأحاطها بمفردات مدهشة رغم بساطتها الخادعة. وكان على شعراء جيل السبعينيات على نحوٍ خاص تمهيد الأرض وحراثة التضاريس لإقامة مشتل آخر من بذار هذا الشاعر بعد تهجينها وإعادة تقليب التربة بما يتواءم مع هواء قصيدة طليعية تحتفي باليومي و العادي والمهمل. هكذا أداروا أكتافهم لنزار قباني وأدونيس كمرجعيتين شعريتين، من دون آلام تُذكر، ليعتنوا بحقل الماغوط وحده، ويزرعوا بحذر أعشاباً طرية في شقوق صخوره، وفي ظلال شوكياته بطعمها المرّ، لذلك بدت تجارب شعراء مثل بندر عبد الحميد» احتفالات»، ونزيه أبوعفش» أيها الزمان الضيق، أيتها الأرض الواسعة» ، ومنذر مصري «بشر وتواريخ وأمكنة» كأنها حصيلة للعمل الشاق الذي أنجزه الماغوط، وإن اختلفت النبرة لجهة الإيقاع الخافت، والاعتناء بتفاصيل محسوسة أكثر، والذهاب أبعد في مراودة الشفوي، أو ما يبدو للوهلة الأولى «ما ليس شعراً»، على أن من أعاد صلة النسب إلى الماغوط بوضوح أكبر، هو الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين في «خراب الدورة الدموية» بالإضافة إلى مجموعاته اللاحقة، عبر هتاف فردي جامح ينهض على تكنيك «الأب المؤسس» نابشاً بمهارة محتويات الصندوق الأسود للماغوط، خصوصاً ما يتعلّق بـ «كاف التشبيه» ليغلق القوس على معجم الغضب.
ستبقى ظلال الماغوط حاضرة في ديوان الشعر السوري بدرجات متفاوتة بالنسبة لجيل الثمانينيات والتسعينيات الذي وجد نفسه أمام فخاخٍ كثيرة، فلم يعد هذا الشاعر وحده مرجعيته المركزية، إذ لفحت تجارب جيل السبعينيات المغامرة الحائرة لهؤلاء بوجود آباء كثيرين من قارات مختلفة، مثل سليم بركات، وسعدي يوسف، وبسّام حجّار، ولاحقاً سركون بولص، ووديع سعادة، كما سيقع على كنوز الشعر المترجم التي ستهزّ أركان النص بنبرة هجينة، وبات شعراء مثل جاك بريفير، وريتسوس، وولت ويتمان، ولوركا، ونيرودا، حديقة خلفيّة لنصوص هؤلاء. وسوف يعاد اكتشاف الماغوط اليوم بشذرات متناثرة يلتقطها قرّاء مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها ثماراً محرّمة بطعم السفرجل.
صحيفة الأخبار اللبنانية