محمد ملص: «سُلّم» إلى الحرية الموءودة (حسين بن حمزة)
حسين بن حمزة
في فيلمه «سُلَّم إلى دمشق» الذي أقيم له عرض خاص في بيروت قبل أيام، يخوض محمد ملص تجربة خطرة حين يضع المادة الفيلمية في «خدمة» الواقع المباشر، ويستجيب هو نفسه لفكرة صياغة هواجسه السينمائية كشهادة شخصية مباشرة على الوضع المتفجر في سوريا. لم ينقطع المخرج السوري عن قراءة الواقع والتاريخ والذاكرة في أفلامه السابقة، لكن صاحب «أحلام المدينة» غالباً ما حَظِيَ بمساحات معقولة تجعله قادراً على مزج هذه القراءات مع تعبيرات بعيدة ومواربة ممزوجة ــ بدورها ــ مع كادرات سينمائية ثرية، ورؤية بصرية تقارب موضوعات أفلامه من زاوية خاصة ومبتكرة، حيث يمكن إمرار خلاصات فكرية وسياسية من دون أن يتأذى الفيلم بحمولتها المباشرة.
الخطر الذي نتحدث عنه ليس غائباً عن بال ملص الذي يقرّ بأنّ «الفيلم هو تعبيرٌ عن موقف ورأي سياسي»، وبأنه أُنجز بإيعازٍ واضح من الحدث الذي لا بد من أنّه فرض عليه أن يكون مباشراً وتوثيقياً في أغلب لحظات الفيلم، بل إنه أجرى تعديلات عديدة أثناء التصوير بسبب مستجدات وتطورات الوضع السوري على الأرض، لكنه ــ في الوقت نفسه ــ يؤكد أنه أراد أن يقول رأيه بدلاً من الاستسلام للعجز والصمت والخوف، وأنه لم يغالط نفسه حين سمح للواقع الراهن أن يتسرب بهذه الكثافة إلى فيلمه الذي أراده ــ في الأساس ــ أن يكون شهادة شخصية.
الواقع إذن هو الفيلم كله، وليس مادةً مستجدّة ودخيلة عليه. إنه مصنوع مما يحدث هنا والآن، ولذلك لم يكترث صاحبه كثيراً باحتمال أن يجلب الواقع الساخن معه أشياء مباشرة وسلبية (قد) تتعارض مع السينما كفن. لعل الواقع نفسه جعل أبطال الفيلم وجوهاً جديدة يظهر أغلبهم للمرة الأولى على الشاشة الكبيرة. إنهم صورة عن الجيل الجديد الذي حملت بدايات الأحداث أحلامه المشروعة، قبل أن تصبح سوريا مساحة لصراعات دولية وإقليمية، ويتحول الصراع نفسه إلى حرب أهلية. يركّز ملص على حياة هؤلاء الشبان الذين يتقاسمون غرفاً مستأجرة في منزل دمشقي قديم، وتتوالى تفاصيل حياتهم على وقع القذائف والاشتباكات التي تتناهى إلينا وإليهم في خلفية الصورة التي اعتنى فيها ملص كعادته بصياغة الضوء والظلال، وراهن على الانطباعات الخصبة التي تصنعها هذه الصورة لدى المتلقي. الشريط مصنوع من الحكايات المتجاورة والمتقاطعة لهؤلاء الشبان. هو حكاية الصبية غالية (نجلاء الوزّة) القادمة من طرطوس إلى دمشق لإكمال دراستها الجامعية، وحكاية صديقها فؤاد (بلال مارتيني) الذي يحلم بأن يكون مخرجاً سينمائياً، وحكاية لارا (لارا سعادة) التي تريد الذهاب إلى حمص وشرب كأس نبيذ هناك، وحكاية زرزور (محمد زرزور) الذي يحبها ويلحق بها، وحكاية الناشط حسين (حسين مرعي) الذي يُعتقل، وحكاية زينة (جيانا عنيد) التي اعتُقل والدها (غسان الجباعي) قبل الأحداث الحالية.
السينما حاضرة داخل الفيلم، إذْ يواظب فؤاد على عرض أفلام وفيديوهات في غرفته ويدعو شركاءه في السكن لمشاهدتها، وخصوصاً غالية التي تشاركه التعليق على فيلم «المرج الباكي» للمخرج اليوناني الراحل ثيو أنجلوبولوس، بينما يذكّرنا ملص دوماً بأن بطله الشاب يؤلف الفيلم بكاميراه الخاصة. كأننا أمام شريط داخل شريط. يتعزز ذلك أكثر حين يمرر ملص حكاية موت المخرج الشاب باسل شحادة، ويعرض لقطات من اعتقال والد زينة من فيلمه «فوق الرمل تحت الشمس». لحظة مونتاجية تذكّرنا بمسيرة ملص التي يمكن وصل أفلامه ببعضها من خلال تأريخها لأحلام مجهضة في محطات مختلفة من التاريخ السوري. هكذا، تطفو هذه المذاقات التراجيدية على سيناريو الفيلم الذي يبدأ بمشهد لضريح المخرج السوري الراحل عمر أميرلاي، قبل أن تختلط اللقطات التالية بالتراجيديا الأعنف التي تعيشها سوريا حالياً، ثم يختزل المشهد الأخير مقولة الفيلم كلها، حين يصعد حسين بعد إطلاق سراحه إلى سطح المنزل، ويلحق به أصدقاؤه غير عارفين ما سيُقدم عليه. هناك نراهم جميعاً يسندون سلماً خشبياً يرتقيه حسين، ويصرخ: حرييييييييييييييية، قبل أن تظلم الشاشة ويبدأ تتر الأسماء المشاركة في الفيلم الذي يُخيّل لنا للحظة أن صانعيه عاشوا أحلاماً مماثلة لحلم المخرج، وأنهم الآن خائبون من ضياع صرختهم تلك تحت أنقاض سوريا الدامية. انطباعٌ جارحٌ مثل هذا كان بادياً حتى على وجه محمد ملص عقب عرض الفيلم لعدد محدود من الأصدقاء في «متروبوليس أمبير صوفيل». لا ينفي صاحب «الليل» ألمه مما آلت إليه الأمور في بلده، ولكنه لا ينفي رضاه عن الشريط الذي يعتبره صرخة سينمائية خاصة وضرورية. المخرج المتفرد الذي صنع البداية الفعلية لـ«سينما المؤلف» في السينما السورية، لا يزال مخلصاً لروحية التأليف والسرد في شريطه الجديد. صحيح أن السرد تعرّض لتدخلات عنيفة من الواقع السوري المباشر، إلا أنه لم يبتعد عن نفسه ورؤيته كمخرج، بحسب تعبيره.