محمود بيومي يؤرخ لفن العزف على الكمان
يقدم د. محمود بيومى العميد السابق لمعهد الكونسرفاتوار في كتابه “فن العزف على آلة الكمان” رؤية متكاملة لتطور أساليب فن العزف على آلة الكمان وكذا تطور تقنياتها على تعددها بشكل تفصيلي، مبينا وضع الجسم واليد والأصابع بما لديه من خبرة كأستاذ وعازف لآلة الكمان بالمعهد العالي للموسيقى مكنته من تحويل الجانب التطبيقي والأدائي نظريا في صورة مرجع موثق باللغة العربية يعد إضافة متميزة ومهمة للمكتبة الموسيقية العربية.
ينطلق بيومي بفصل تاريخي عن تطور العزف على آلة الكمان، سرد فيه تطور فن العزف، وذكر العازفين الذين طوروا شكل الأداء من خلال أدائهم المتميز أو تدريسهم أو استنفارهم للمؤلفين لكتابة أعمال تتناسب مع ما وصلوا إليه من تقنية. ثم خصص باقي فصول الكتاب لشرح تقنيات اليد اليسرى وتحليل كل تقنية من التقنيات، وتعريفها وتوضيح الأسلوب أو أساليب أدائها، وكيفية تنميتها من خلال شرح واف لطريقة الأداء وكيفية التدريب، مستعينا في ذلك بالأمثلة والصور والأشكال التوضيحية وفي نهاية الكتاب أضاف ملحقا خاصا بتاريخ تطور الآلات ذات القوس.
يقول بيومي إن فن العزف على آلة الكمان تطور خلال الستة قرون الماضية، فتطور شكل القوس والآلة، وكتب لها المعزوفات العديدة الخاصة بها سواء أكان بمفردها أم بمصاحبة أوركسترا أم كموسيقى حجرة أو كآلة ضمن الأت الأوركسترا. هذا فضلا على بروز عازفين بارعين أثروا الحياة الموسيقية بأدائهم المتميز، وكذلك ظهور مدرسين لآلة الكمان ذوي مستوى رفيع أمدوا الساحة الموسيقية بالمواهب الموسيقية المتعددة.
كما جرى افتتاح المعاهد الموسيقية والأكاديميات الموسيقية المتعددة مما كان له أثره الإيجابي الفعال في نشر تعليم العزف على آلة الكمان بشكل أكاديمي على نطاق واسع. وهناك عوامل أخرى ساعدت على تطوير فن العزف على الآلة، كالتغيرات الاجتماعية، وتوسيع قاعات الموسيقى، وزيادة عدد عازفي الأوركسترا المصاحبين للعازفين المنفردين.
أشكال آلة الرباب تنوعت فعرف منها في مصر والشرق العربي رباب الشاعر وصندقها الرنان على شكل مربع جانبيه مقوسة للداخل شيئا ما. ورباب أخرى تركية تسمى “كمنجة” أو “الأرنبة”
ويلفت أن أحد كتاب التاريخ الأوائل وهو جامب دي فير أدلى في العام 1556 بأن “الكمان ذات الأربعة أوتار كانت تستخدم في عزف موسيقى الرقصات. وكانت تستخدم في أداء الخط اللحنى نفسه الذي يقوم بأدائه المغني” (أى تقليد صوت المغنى، كما هو متبع في موسيقى الأغاني العربية). لذا نجد أن بعضا من قوالب موسيقى الآلات أشتق من أصل غنائي.
ويضيف بيومي أن الآلات ذات القوس ظهرت خلال القرن الـ 13، إلا أن الكمان بشكلها الحالي. من دون المواصفات الدقيقة. أصبحت تستخدم في منتصف القرن الـ 16. وفي العام 1582 ظهرت معزوفات (رقصتان) كتبتا خصيصا لآلة الكمان في باليه Ballet comique de la royne والذي وضع موسيقاه بالتازار دو بوجوايو، وتعد هاتان الرقصتان أول ما كتب وطبع خصيصا لآلة الكمان.
وقد يرجع عدم الاكتراث لكتابة جزء خاص بآلة الكمان من قبل ذلك التاريخ إلى إن أداء اللحن نفسه الذي يؤديه المغني لا يحتاج إلى نوته خاصة لعازف الكمان. كما أن موسيقى الرقصات لا تحتاج إلى كتابة نوتة موسيقية، لأنها كانت تحفظ وتؤدى من وحي الذاكرة. ويعتبر جبريللي ومونتفردي (1567 – 1643) من أوائل من كتبوا أعمالا منفردة للكمان بين آلات الأوركسترا الأخرى.
ويتابع أن دروس تعلم العزف على آلة الكمان كانت تلقن من الأستاذ إلى الطالب شفهيا وعمليا حتى القرن الـ 17 الذي بدأ فيه ظهور كتب تعليم الكمان للهواة. وأما بالنسبة إلى العازفين المتقدمين فلم تظهر كتب موضوعة خصيصا لهم قبل العام 1750. وفي منتصف القرن الـ 17 أصبح شكل ولون الموسيقى مرتبطين بالطباع والسمات القومية لكل بلد، فاتسعت الفجوة بين الموسيقى الإيطالية والموسيقى الفرنسية مما كان له أثره في تطور فن العزف على آلة الكمان.
وفي منتصف القرن الـ 18 تطورت تقنيات العزف على الكمان لكى تناسب شكل الأداء في فترة “الروكوكو” (1730 – 1770) التي تميزت بالاستخدام الواسع للحليات والزخارف الموسيقية. ويعد تارتيني (1692- 1770) من أهم عازفي ومؤلفي تلك الفترة، فقد ألف ما يربو على مائتي كونشرتو، وعددا كبيرا من الصوناتات نشر منه إبان حياته ثماني وأربعين صوناته. وتعد إضافاته التي استحدثها لفن العزف على الكمان من أسس تطوير تقنية اليدين مما كان له أثر إيجابي في الأجيال التاليه له من العازفين.
ويوضح بيومي كيفية حمل الآلة (المسكة) “بنظرة تاريخية إلى تطور فن العزف على آلة الكمان؛ نجد أنه في أواخر القرن الـ 18 أصبح معظم عازفي الكمان يمسكون الآلة بوضعها تحت الذقن، مما يجعلها في وضع أكثر أمانا مما كان متبعا من قبل، فقد كان بعض العازفين يضعون ذقونهم على الجانب الأيمن للمشط مثلما كان يفعل تارتيني Tartini وبعضهم يضعها على الجانب الأيسر مثلما كان يفعل فيوتي Viotti، وفي عام 1820 أضاف شبور Spohr الذقانة chain rest حتى يزيد من إحساس العازف بالراحة والأمان في أثناء الأداء.
وقد كانت ذقانة شبور هذه توضع فوق المشط مباشرة إلى أن جاء بايوه سنة 1934، وأوصى بأن توضع الذقانة في جهة اليسار، ومنذ ذلك الوقت أصبح الوضع للذقانة هو الجانب الأيسر من الآلة. ومع ذلك يوجد في الأسواق أشكال متعددة من الذقانات، فمنها ما يوضع على الجانب الأيسر من الآلة ومنها ما يوضع فوق المشط. ولمزيد من الأمان والراحة بدأ بعض العازفين في وضع مخدة بين الكتف وجسم الآلة، ثم تطورت هذه المخدة إلى أن صارت الكتافة المتعارف عليها الآن بأشكالها المختلفة بحيث تناسب الشكل العظمى لرقبة وذقن العازف.
ويضيف “أما عن كيفية حمل الآلة فهناك بعض العازفين يمسكونها كليا بين الكتف والذقن من دون أى تدخل من اليد اليسرى، بينما نجد آخرين يعتمدون في المسكة على مساحة اليد اليسرى؛ على أن تلعب الذقن دورا حيويا بالضغط على الآلة وذلك لتثبيتها في أثناء التغيير بين الأوضاع لتحرير حركة اليد اليسرى.
وفي اعتقادي أنه من الأفضل إمساك الكمان بين الكتف والذقن من دون الاعتماد على اليد اليسرى، وذلك حتى تكون اليد اليسرى بكامل حريتها عند الحركة سواء أكان في الوضع الثابت أم عند تغيير الوضع، ولمزيد من حرية اليد والإحساس بالأمان يمكن استخدام الذقانة والكتافة”.
ويشرح بيومي “عند رفع الكمان ووضعها على الكتف نقوم بإمساك الكمان بوضع رقبة الآلة بين إصبع الإبهام من جهة وباقي الأصابع من الجهة الأخرى مع مراعاة النقاط الآتية :
ـ عدم قبض اليد على الآلة وأن يكون إصبع الإبهام حرا ينحني باتجاه الخارج أو الداخل.
ـ عدم ملاصقة الإصبع الأول لرقبة الآلة “فقط يمكن لمسها”.
ـ أن يكون الرسغ في وضع مستقيم مع الجزء السفلي من الذراع forearm بلا أي انحناء من الرسغ سواء أكان باتجاه الداخل أم الخارج.
ـ أن تكون الأصابع جاهزة في الهواء فوق المراية والأوتار، من خلال الـتأكد من أن الكوع في مكانه المناسب تحت الآلة.
ـ يجب أن تكون الآلة في وضع أفقي فوق الكتف ـ بشكل أساسي ـ وألا تكون مائلة لأسفل.
ويرى أن كثيرا من المعزوفات والدراسات والأبحاث التي نشرت في هذا المجال تشير إلى عدم وجود دليل يفيد استخدام أوضاع فوق الوضع الأول قبل بداية القرن الـ 17. ومع ذلك هناك عدد من اللوحات ترجع إلى القرن الـ 16 تظهر في الرسم أن عازفي الكمان كانوا يستخدمون الوضع الثالث. وقد أصبح استخدام الأوضاع أكثر شيوعا بعد عام 1600 حتى تلبي متطلبات مؤلفات مونتيفردي Monteverdi التي تتطلب الوصول حتى الوضع الرابع، وكذلك مؤلفات يوشيلليني Uccelini التي تتطلب استخدام الأوضاع حتى الوضع السادس. ومع نهاية القرن الـ 17 أصبحت بعض الأعمال تتطلب وبشكل متكرر العزف حتى الوضع السابع مثال ذلك أعمال كل من بيبر Biberوولتر walther. ولكن الاستعمال الطبيعى للأوضاع كان لا يتعدى الوضع الثالث أو الرابع؛ والدليل على ذلك أن أغلب مؤلفات كوريللي Corelli يمكن أداؤها من دون تعد للوضع الثالث.
وحوالى عام 1750 أصبح العزف حتى الوضع السابع من المهارات الأساسية للعازف الجيد في كل من إيطاليا وألمانيا، حتى نجد من أحد كابريسات لوكاتيللي Locatelli أجزاء تتطلب الوصول حتى الوضع الرابع عشر.
ويضيف بيومي أنه خلال القرن الـ 19 كان هناك تطور مهم بشأن استخدام الأوضاع المختلفة والتغيير بينها وذلك مرجعه سببان، أولهما: اكتشاف جمال نوعية الصوت على وتر “صول” في الأوضاع العليا، وثانيهما: استخدام الانزلاقات عند التغيير بين الأوضاع يضيف إلى الأداء نوعا من التعبيرية. ولهذين السببين قام فيوتي Viotti باستخدام الأوضاع حتى الوضع التاسع وأحيانا العاشر على وتر “صول” في الكونشورتات أرقام 7، 8، 9، كما نجد أن باجانيني كتب عملا كاملا على وتر “صول”. كما أن ترقيمات الأصابع التي وضعها كل بايوه Baillot ويواخم Joachim تعبر عن استخدام أسلوب الانزلاقات المقصودة عند تغيير الوضع من أجل هدف فني يضيف تعبيرية دافئة للأداء.
ويرى أنه خلال القرن العشرين كان رد الفعل واضحا ضد المبالغة في التعبير؛ وقد كان من أدواته المبالغة في استخدام الانزلاقات المسموعة عند تغيير الوضع، وقد كان أكثر هذه الأساليب تطورا هو استخدام المد Extension وضم الأصابع Contraction للتغيير بين الأوضاع. ورغم أن تغيير الوضع بأسلوب المد وضم الأصابع لا يعد بالشيء الجديد بدليل استخدام جيمنياني Gamintani وبجانيني Paganini لهذا الأسلوب من قبل؛ إلا أن الأسلوب لم يستخدم بالصورة الواسعة المنهجية التي كانت واضحة في ترقيمات الأصابع المستخدمة في القرن العشرين. وعلى أية حال فمازالت السلالم الأربيجات هي محور تدريب عازفي الكمان حتى الآن لأهميتها في تأكيد التنغيم والمساعدة على ليونة الأصابع وتقويتها؛ والمد وضم الأصابع يعدان مصدرين إضافيين لذلك.
ويحدد بيومي الأسباب الرئيسة لاستخدام التغيير بين الأوضاع بشكل عام كالتالي:ـ الضرورة: وذلك لتوسيع المسافة الممكنة للعزف على وتر واحد، كما أن أداء النوتات المزدوجة يتطلب بالضرورة التغيير بين الأوضاع.
ـ الراحة وسهولة الأداء: في بعض الأحيان استخدام الأوضاع المختلفة والتغيير بينها من العوامل التي تساعد على تسهيل عزف الجزء المطلوب أداءه.
ـ الرشاقة: استخدام الأوضاع المختلفة والتغيير بينها قد يجعل هناك نوعا من الرشاقة نتيجة استمرارية الأداء بلون واحد بسبب استخدام العزف على وتر واحد لأوضاع أعلى بدلا من التغيير بين الأوتار الذي من نتيجته تغيير لون الصوت.
وفي الملحق الخاص بتاريخ تطور الآلات ذات القوس فيشير بيومي إلى آلة “الرافاناسترون” الهندية باعتبارها أقدم آلة وترية ذات قوس ويرجع تاريخها إلى 5 آلاف عام قبل الميلاد، لكنها لم تتطور وأهملت وماتت، ويقول إن “القدماء المصريين منذ الأسرة الأولى كانوا يعرفون الآلات الوترية وعلى رأسها آلة الصنج الوترية “الهارب” وكانت أحد أهم مكونات الفرقة الموسيقية الموجودة على الجداريات الفرعونية”.
ويؤكد أن العرب كان لهم فضل إحياء آلات ذات القوس في القرون الأولى بعد الميلاد بصناعة آلة “الرباب” وقد تنوعت أشكالها فعرف منها في مصر والشرق العربي رباب الشاعر وصندقها الرنان على شكل مربع جانبيه مقوسة للداخل شيئا ما. ورباب أخرى تركية تسمى “كمنجة” أو “الأرنبة”.
ومن الآلات الوترية التي تناولها بيومي: آلة الفيل أو الفيدل، آلة الليرا، أسرة آلة الفيول، عائلة الفيولينة “الكمان”، آلة التشيللو، وآلة الكونترباص.
ميدل إيست أون لاين