محمود درويش.. الشعر يقاوم في غيبة الشاعر

في ذكرى رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش، يستحضر الفلسطينيون وكل أبناء الشعب العربي المدافع عن القضية الفلسطينية، مواقف الشاعر درويش من قضية شعبه وبلاده ونضاله من أجل الحرية.

ويعد ”درويش” واحدا من أكثر الشعراء العرب رواجا وانتشارا، لكنه في الوقت نفسه من أشد الشعراء انطواء على أنفسهم وإصغاء إلى صمتهم الداخلي، فقد جعل من مأساته التي هي مأساة أرضه ملحمة تراجيدية، تمتزج فيها النبرة الغنائية العالية والصوت الإنساني الخافت، عاش حياة صاخبة، شعرا وسياسة وأمسيات وأضواء، تقابلها حياة هادئة جدا مفعمة بالصمت والتأمل، لكن مع ذلك كان درويش يؤمن بأن السخرية هي من أدوات المقاومة التي يملكها الأديب في مقاومته للاحتلال وانتزاع الحرية.

• الأدب المقاوم

ويؤكد درويش أن السخرية في الأدب من أرقى أشكال المقاومة، والسخرية تحمل قدرة النفس البشرية على أن تتحمل العذاب وتفكك التراجيديا، وتجعل حياة الناس قابلة للتحمل، وبالتالي الأدب الساخر أصعب أنواع الأدب، وخاصة عندما يتمكن الكاتب من السخرية من نفسه ومن موضوعه، والسخرية أحد أشكال مقاومة الوضع الراهن الصعب وخلق القدرة التفاؤلية على تحمل الهم العام والهم الشخصي.

وعن ترديد كثير من السجناء السياسيين داخل وخارج الأرض المحتلة لأشعاره، يقول: ليس هناك شاعر في الدنيا يكتب من أجل أن يقرأ نفسه ويكتب لكي يفهم نفسه، وعندما تتم كتابة النص الأدبي يستقل هذا النص عن كاتبه تماما، ويدخل في علاقات مع ذائقة جمالية في مجتمع معين، ولا حياة للنص إذا لم يكن له قارئ أو لم يخترق نسيجا مجتمعيا معينا، لذلك لا يحيا الشعر ولا يحيا النص إلا إذا تمت كتابته التأويلية أو المجازية من طرف الشاعر الثاني وهو القارئ الأدبي الذي يعطيه حياته، ولذلك يسعد الشاعر بأن يقرأ له الناس ويسعد بأن يدخل الفرح إلى قلوب الناس، وأن يشعرهم بقدرة داخلية على ملامسة الحرية، حتى ولو كانوا في الزنازين، لذلك أنا سعيد جدا لأن يمنح شعري بعض التعويض الجمالي أو النفسي لمن حرموا من الحرية، ولمن حرموا من الاستقلال، ولمن حرموا من ممارسة الحياة في كثير من البلدان، والشعر دائما يحمل شيئا من العزاء أو شيئا من التعويض، فعندما يصل شعري إلى هذا المستوى من الآخر أشعر أني لا أكتب عبثا، وأشعر أن هناك جدوى وضرورة للشعر.

• تجربة السجن

وعن تجربته في السجن قال: يجب أن أتواضع عندما أتكلم عن السجن فأكبر فترة في السجن قضيتها هي عبارة عن شهرين، وسجنت حوالي ست مرات، ولكن إحساسي بأن السجن الحقيقي هو السجن الكبير هو الاحتلال، وهو الحصار المضروب علينا، أما أن أتكلم عن شكوى كبيرة من السجن قد يكون مبالغا بها، فالسجن علمني الإصغاء لنفسي، فلا أستطيع ذلك مقارنة مع المساجين الذين عاشوا سنوات في السجن، والذين يعتبرون أبطالاً في صمودهم، فعلى سجني أن يتواضع أمام كبرياء وبطولة هؤلاء المعتقلين والأسرى في السجون.

وعن التألق الذي أضفاه على أغنية مارسيل خليفة من خلال قصيدته، يقول بكل تواضع بأن القصيدة ملحنة وتحمل موسيقاها بذاتها، لكن بسبب انتشار الأغنية، وبسبب جمالية موسيقى مارسيل خليفة وأناقة أدائه، انفتح أمام القصيدة شوارع أوسع وساحات أكبر، ونقلها من الكتاب إلى ملايين الآذان، أي أن مارسيل منح القصيدة انتشارا أوسع وساعد الذائقة العامة العادية على تقبل ما نسميه نحن الشعر الحديث، فإذن مارسيل خليفة قدم خدمتين؛ خدمة للشعر وخدمة للذائقة الشعبية الموسيقية، ولكن أهمية مارسيل تكمن في موهبته الموسيقية، وليس فقط بغنائه قصائدي، وهو الآن عاكف يشتغل أكثر على العمل الموسيقي أكثر منه على الغناء.

وعن علاقته بالأدب الفلسطيني وأدبائه أكد: حرصت على أن تكون علاقتي ودية وأخوية مع جميع الشعراء والكتاب الفلسطينيين، ولكن العلاقة الأعمق هي علاقتي مع النص، وأنا حريص جدا على أن أواكب وأتابع تطور الذائقة الشعرية، والانتباه إلى صوت الذات الفلسطينية الجديدة، والشعراء الفلسطينيون الجدد انتقلوا من الخطاب الوطني المباشر إلى التأمل في ذواتهم وفي داخلهم الإنساني، وهذا حسن، وأنا سعيد بأن أراقب هذا التطور في الحساسية الشعرية لدى الشعراء الفلسطينيين، أما على المستوى الشخصي فهي علاقة سليمة مع الذين أعرفهم ولو كنت أتعرض للكثير من السهام والاتهامات البذيئة من قبل بعض الشعراء الفلسطينيين.

لم يكن يعبث لحظة واحدة بأدوات رسالته لفرط حساسية هذه الأدوات، فأداة الشاعر الفلسطيني واحدة بطبيعته الاستثنائية، هذه الأداة هي الوطن المفقود الذي يصبح في الغياب فردوسا مفقودا.

درويش الفلسطيني المولد يمثل الضمير الحيّ لفلسطين وشعبها، هو أيضاً ذاكرة الحياة الملحمية التي عاشها الفلسطينيون، والمخيلة التي ترنو إلى مستقبل قد لا يكون ناصعا جدا.

وحتى آخر أيامه كان يقول: ما زالت علاقتي بالجمهور علاقة صحية، وعلاقة تطور وتطوير متبادل بيني وبين قراء الشعر، وأنا لا أحب استخدام مصطلح جمهور بقدر ما أفضل مصطلح المتلقي أو القارئ، ولكن مفهوم الجمهور قابل للتعديل الدائم، الجمهور يتغير، ويسعدني أن أكثر قرائي الآن هم من جيل الشباب في العشرينيات من أعمارهم، وهذا يعني أنني وقارئي ما زلنا قادرين على أن نقيم علاقة متجددة مع النص الشعري، فهناك قارئ قديم مخلص لذاكرته القديمة ولا يستسيغ اقتراحاتي الشعرية الجديدة، ولكن هناك قارئ جديد باستمرار، وهو ما يعطيني القدرة على تطوير أدواتي وأساليبي الشعرية من دون خوف من قطيعة ما قد تحدث بين النص الشعري والقارئ، فإذن إصغائي الدائم لإيقاع الزمن يرافقه إصغاء لذائقة جيل جديد تتكون حساسيته الشعرية بشكل مختلف عن الجيل القديم، إذن القارئ متجدد، ونصي الشعري متجدد، وهذا التجدد المتبادل هو ما يمنح قصيدتي حق الحياة إذا جاز التعبير.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى