مدينة الحلم.. مدينة القاع
لم نعرف في عصرنا الحديث شاعراً مثل نزار قباني صار بشعره، وبشعره وحده، نجماً ساطعاً وبنى لنفسه بالشعر وحده حضوراً لم يجاره فيه أحد. كانت هذه إحدى اختلاجات الشعر الأخيرة وإحدى لحظاته الأكثر إثارة، بل إحدى لحظات الثقافة الأكثر شمولاً. فقد سار شعر قباني بين كل القراء على اختلافهم وصار جزءاً من تفتحهم على العالم، وجزءاً من إرثهم الرمزي واللغوي واستقبالهم للأشياء. لقد رد نزار قباني الشعر إلى قدر من جماعية بل وشعبية، فصارت كتبه بين أيدي الطلاب والمراهقين من التلاميذ، وتحولت أشعاره إلى رسائل ومدونات، وباتت لغة عامة وخيالاً مشتركاً.
كان ذلك أيضاً صدمة. فقد تراءى لكثيرين ان الشعر لم يغد بهذا العموم إلا بتنازلات جوهرية. لقد فقد فحولته وارستقراطيته وتحول عن جزالته وقوته إلى سلاسة مشبوهة وغناء بسيط وخيال وقح وانشغال يومي وأدب عار. بالنسبة لهؤلاء كان هذا ابتذالاً وهبوطاً، بل إن انتشار نزار قباني نفسه كان موضع شبهة، إذ لا يليق بالشعر أن يكون ميسوراً بهذا القدر ولا بد أن فيه ضعفاً جعله إلى هذه الدرجة مطلوباً. كان انتشار نزار قباني بالنسبة لكثيرين آفته، فقد أنزل الشعر عن مقامه وجعله متوفراً لكل من يحسن القراءة.
مع ذلك لم يكن نزار قباني، كما ظنه كثيرون، طفرة. لقد كان خلاصة مخاض طويل، إذ لا نفكر ببدوي الجبل وسعيد عقل وصلاح لبكي ويوسف غصوب إلا ونشعر بأن بين هؤلاء الشعراء آصرة ما، وأن ثمة عملاً على اللغة وفي اللغة كان هذا أوانه: الشفافية والضبط الإيقاعي والخيال الحلمي والابتكار في الصور والمباني، كل هذا كان يتداخل بتفاوت في أشعار هؤلاء ومن على طريقهم. أما نزار قباني فاستخلص كل ذلك في شعره، خلصه بادئ بدء من تغربه وتفرده وجعله سائغاً قريباً. بل حرره من نفوره وامتيازه ومنحه ألفة وسهولة وحقنه بشيء من التقاليد المتواترة فبدا وكأنه يخرج من الذاكرة. كان ذلك خلاصة عملية تبسيط واسلاس وإجراء مستو للغناء. كان هذا أولى علائم نزار قباني. انه من الشعراء الذين يرثون مرحلة ويبدون كأنهم جماعها وطلقتها الأخيرة. انه من الشعراء الذين يحوّلون عملية تجديد متواتر إلى تراث في الشعر. هكذا يمكننا أن نقيّم نزار قباني، انه خلاصة مرحلة وهو بذلك علامة فارقة. مثله في ذلك مثل سعيد عقل الذي هو الآخر، وان من جانبه، علامة فارقة وخلاصة مرحلة.
نقرأ شعر نزار قباني الأول فلا نجد دعوة صريحة إلى مثال أو مبدأ. لن نجد في شعره أسطورة متعالية، لا نجد رموزاً يصعب فكها، نجد في هذا الشعر أسماء عطور وأقمشة وساحات رقص وفتيات في عمر الورد تتفجر أنوثتهن ورجالا معتزين بفحولتهم. نجد عالماً مفتوحاً عامراً بالرغبة متاحاً مقبلاً، يغشانا في أحلامنا، ويتصاعد منها ملفوفاً بها. ليس عالم أفكار أو تجريدات أو قيم، لا يتفلسف ولا يعظ ولا يضعنا أمام لغز كوني ولا أمام تراجيديا من أي نوع، في وسعنا القول اننا أمام عالم مستقبلي، بل في وسعنا القول اننا أمام صور من حياة مليئة. نحن إذ ذاك في أسواق وساحات وعناصر حديثة، حياة مشتهاة وقد تكون مجرد حلم، لكنها حياة مجسدة مرئية وملموسة. الحداثة هنا هي في الروائح واللباس والرغبات والعيش بفصوله وتفاصيله. انها حياة ليست بطولية ولا متساومية ولا خرافية، حياة سنوبية (من سنوب) وكل ما فيها كوني، كوسمو بوليتي. ثمة عواصم هنا ومشارب عديدة وسياحات جمة، بل ثمة نموذج أو نمط حياة قائم بذاته. ما كان هذا ليغدو حقيقة أو حلماً لولا تكون برجوازية دمشقية لها أهواؤها ومشاربها، ولها أيضاً أحلامها ولها مزاجها الكوني ونموذجه. لا نقول ان نزار قباني يبشر بها، لكننا نقول ان ما يقدمه نزار قباني هو الحلم بنمط حياة لها معالمها ولها كليشياتها وفتيشياتها. هذه بالدرجة الأولى حداثة نزار قباني التي قد لا نطلبها في النظام الوزني أو اللغوي ولكننا نطلبها في عالمه الذي هو سياحة في ملاهي الحياة البرجوازية وتطلعاتها ومشارفها العالمية. هذا هو مثال نزار قباني وتلك هي أسطورته. لقد قدم نموذج حياة مقابل الأساطير القومية والكونية التي كان الشعراء الآخرون يبشرون بها.
باختصار، لم يكن نزار قباني ابن الصناعي التاجر ليحلم بدون أن يمتلئ حلمه بالروائح والملابس والحلي. إنه يحلم في المدينة، المدينة المتكونة أو لا تزال في طور التكوين، المدينة بمسارحها وملاعبها، وما كان حلمه إلا مدينياً. لم يمتلئ عالمه بالفرسان والأبطال الذين كانوا في أعمال شعراء آخرين يأتون من خارج التاريخ، وربما من صحارى ممتدة ومن جاهليات عريقة آبدة.
ليس نزار قباني شاعر أفكار إنه شاعر مرئيات، شاعر تفاصيل حياة. الأفكار إذا احتاج الأمر، يجدها على الطريق يستعيرها من أي كان، بل يستعيرها من الشارع نفسه. الأفكار، إذا احتاج الأمر، يستعيرها من الجمهور. لا بأس أن تكون القصيدة السياسية تظاهرة، تظاهرة بكل ما فيها من شعارات ومن هتاف. لا بأس أن تلتقط التذمر الشعبي والشكاوى العامة، لا بأس أن تعبئ القصيدة وأن تحرض وأن تستحيل إلى خطابة معكوسة، خطابة ليست فصيحة ولا مقعرة ولا ثقيلة، بل خطابة خفيفة مباشرة حاملة كل الرعف الشعبي وكل النقمة الشعبية. ها هنا نزار قباني لا يبتعد كثيراً، انه يعير أذنه للشكاوى الشعبية ويحسن أن يتكلم بلغة الجمهور. بذلك لا يزال نزار قباني مفاجئاً، انه يملك ما يمكن أن نسميه الغريزة الجماهيرية وشعره يستمد حياته ونبضه من هذه الغريزة. انه يستعير بل ويتمثل نزعة التدمير والإحراق الشعبية ويحقن بها قصائد لا تقلل ديماغوجيتها وبساطتها إلى حد الركاكة، من فوريتها وتأثيرها العصبي. في هذه القصائد يستعير نزار قباني الحكي الشوارعي، الحكي المديني. كان يمكن لهذه التجربة أن تكون نموذجية، واستعارة الحكي المديني كان يمكن أن تكون رائدة، لولا أن ديماغوجية النصوص وركاكتها الفكرية أبعدتنا عن أن نحتفل بهذا الجانب فيها. مع ذلك بقي نزار قباني في كل ذلك ابن المدينة الحقيقي.
صحيفة السفير اللبنانية