“مرايا الضرير”متاهة نيتشه تأسر كولونيل الحروب الخاسرة…من “جنرال الجيوش الميتة” إلى “كولونيل الحروب الخاسرة”، مروراً بـ”الجنرال في متاهته” و”ليس للكولونيل من يكاتبه”، تتسابق الرغبات الملتهبة لإنشاء مسافات داخل النفس، فتنتج انتحاءات قصوى تراقص الجنون على ايقاع الحروب، مما يفسح المجال أمام فاغنر كي يلتقي عدوّه نيتشه على صفحات “مرايا الضرير” للروائي الجزائري واسيني الأعرج (ترجمة عدنان محمد، دار ورد)، لتفسير الخديعة الكبرى التي مني بها شعب المليون شهيد.
يتكئ الأعرج على أسطورة العود الأبدي، ليناقش ما سمّاه صعود الرعاع، المترافق مع صعود القيم الميتة. تتلبس المناقشة ثوب الشكوى لأنها تتيح للكولونيل جرعة كافية للانتقام من ذهنية القطيع المهيمنة على كل ما يمكنه أن يكون استثنائيا في البلد. فأمير زوالي، الكولونيل العظيم في الأزمنة الضائعة والحروب الكبيرة التي أعطت عِرقا مبتوراً وبلا تاريخ، بدلاً من أن تعطي عرقاً خالداً، قضى حياته في خدمة بلاده التي لم تبذل ولو جهداً لكي تقيه من الموت أو من التهديد، مما قلّص المحارب إلى بطل تراجيدي، ملائم لمصير أمة أغرقها الانتهازيون الجدد في حروب التصفيات الوضيعة.
لم تكن حروبا صغيرة، بل كانت حروب إبادة صامتة خاضها بطاعة كاملة وولاء مطلق لجميع الرؤساء الذين عرفتهم البلاد، على رغم محاولات كل منهم محو الآخر. جهل الانتهازيين الجدد للحقيقة المعروضة أمامهم، لا ينفي أن الكولونيل وأقرانه قد صنعوا الحياة من أجلهم، ونهضوا بالأعمال القذرة، التي ارتسمت آثارا على الجسد وفي النفس، مليئة بصرخات ووجوه مفقودة أكمدتها الحرارة والخيبات العديدة التي ليس لها تفسير. ومع أن الكولونيل لم يحب المرايا قط، لكنه في كل مرة ينظر إلى نفسه مواجهة، لا يرى إلا مجدا عظيما يشع من عينيه، واحتراما لقواعد الحروب.
أمضى أمير زوالي الجزء الأكبر من حياته في صحراء بلا ذاكرة وبلا أفق، كعسكري يرى الأيام ويرقب حج “الناس الذين ينظرون”، وأملهم في انبعاث أميرتهم ضيا، كي تخرجهم من الصمت القديم الذي طال أمده. فهم وحدهم القادرون على قراءة الآثار فوق الرمال التي لا تتكلم، إذ يمتلكون لغة العلامات في ذاكرتهم. الكولونيل منهم، لأنه يمتلك صحراء بداخله، فقد جعل العناء منه رجلا مقاوما مليئا بحلم يسعى إلى تحقيقه، حلم يقوده إلى القمة، موقنا بحقيقة أن الفكر الوضيع والرغبة التسلطية هما اللذان جرّا إلى الزوال.
يأتي الأعرج ببطلة جريئة تدعى سارة بريكسي، كي يزاوج بين العدوّين اللدودين نيتشه وفاغنر، فيدفعها الى تحدي الذكر في الكولونيل، ثم يموّه صراع الذكر مع الأنثى المتمردة بطابع العجز عن الحب كمقدمة لتصفية سارة جسدياً وتحولها قهراً كابوسياً مقيماً. في وقت غدت سارة سيدة صمته، لم يكف فاغنر عن السكن بداخله، وباتت محبة هذا الرجل تعني دفع ثمن الحب المستحيل.
كان أمير زوالي سيرفَّع إلى جنرال لو لم تتوقف الأمور عند ملف نشاطاته غير العسكرية. كونه جنرالاً، لم يكن يعني له إلا أن يدفع بغريزة المحارب إلى أقصى مداها، وأن يقبل الذهاب إلى قمة المغامرة والجرأة المدمرة. فالتطلع إلى شعور أقصى ليس إلا التطلع إلى القوة، وهو الأكثر حميمية وعمقا في حياة حالم. لكن الفرق كبير بين الجشع إلى السلطة ومآثر الشجاعة والبطولة، التي تبني الأوطان وتكفل أمجادها. من هنا يستمد أمير زوالي لقبه “كولونيل الأزمنة الضائعة”.
أمضى الكولونيل سنتين في صيد النوارس وحرقها بمساعدة كلبه العجوز، ليتلقى بعدهما أمر المغادرة بما يوجب عليه عندئذ مواجهة عجزه متمثلا في نورسة وردية متحدية تذكّره بالعرق السيئ الذي غادر الجبال ليجد نفسه فجأة أمام ثروة عليه أن يديرها، وبلاداً عليه أن يحكمها، فولد العرق المضاد له، وهو أشد فتكا منه. سيمضي العرقان سريعا إلى الفناء لأنهما سيتقاتلان في الهباء، كما تنبأ الولي عبد الرحمن المحجوب: الجيل الجديد منهم سوف يحرق الأرض الحية، والثاني سيقتسم الرماد، والأجيال التالية ستموت من الجوع والطاعون وأمراض قديمة أخرى سوف تعود مصحوبة بكل نصيبها من المصائب.
أنهى الكولونيل عجزه باستخدام الطلقة الثمينة التي تعود إلى عام 1954، طلقة اللاتفاهمات كلها والتمزقات كلها، الطلقة المخصصة لقتله شخصيا، كونه من يعيش ويتنفس بمحض مصادفة توقف الحرب. هذه الطلقة قسمة وجب تنفيذها في حال من الفرح والخيار الحقيقي، لأنها تختتم عصرا عظيما، مات الناس فيه بعظمة لا مثيل لها، وكان يعدّ لهم دفن يليق بالأبطال. أما موت الكولونيل فغلّفه النسيان، مما دفع نيتشه الى تذكيره بأن العظمة تبنى على الإرادة المطلقة التي نقبل بوساطتها دمارنا الذاتي. فوحدها الساعات الكارثية من التاريخ تجلي عظمة الإنسان. أما خشية الكولونيل من لقب الطاغية فلا معنى لها، لأن الطاغية في أخلاقية العبيد هو من يفرض الخوف، أما في أخلاقيات السادة، فالطيب هو من يفرض احترامه. وكلما ساد نظام العبيد، عمدت اللغة إلى التقريب بين كلمتَي “طيبين” و”أغبياء”. بذلك يكون نيتشه قد وجد في الكولونيل تطبيقه الجنوني ومتاهته.
يذهب واسيني الأعرج إلى أن الفكر الفقير هو الذي يولد الوضاعة، أي الحرب التي ليس لها اسم، مما يعطي الموت الحقيقي صفة الحرمان من الخصوصية الفردية. كحال الفنانة عايشة التي بتروا لسانها كي لا تتحدث، مما جعلها سيدة لكل الأزمنة التي ليس لها أسماء ولا هويات ظاهرة. أما تمثالها الذي يجسد كلب الكولونيل بهيئة عدوانية وحشية، فيختصر تحديق الانتهازيين الجدد في مراياهم العاتمة، مرايا الضرير التي تنبئ عن الموت كثابت وطني وحيد.