مستقبل القيادة في إيران
ساعات تمر ليخرج الدكتور علي رضا ماراندي، رئيس الفريق الطبي المعالج للسيّد خامنئي، قائلا ومن دون ترميز إن عملية بروستات ناجحة أجريت لـ«القائد» من دون مخدر وسيبقى في المستشفى أياما للنقاهة.
لكن طمأنة الرجل لا تفرض طمأنينة في واشنطن. «أصحاب البزات» يريدون نبذة عن المستقبل، فهم لا يحبذون المفاجآت، وفي رومنسيتهم للقصة الإيرانية، يحلمون ليل نهار بإعادة إحياء نموذج محدث من الجنرال فضل الله زاهدي الذي استبدلوه برئيس الوزراء الايراني الشرعي محمد مصدق في 19 آب 1953.
مشكلة العقل الأميركي أنه في بعض الأحيان يشتري سلعته. فهو، بعد أكثر من ثلاثة عقود من تسويق المنظومة الحاكمة في إيران على أنها الشر بعباءة بيضاء وعمة سوداء، ربما صدّق هذه الصورة. فالخريطة بنظره واحدة. إيران دولة بنظام لا يختلف عن المرقوم من أنظمة فككتها أميركا بالقوة الناعمة أو الخشنة… نخبة حاكمة، قاعدة عقائدية صلبة، وأغلبية شعبية غير متأطرة أو محزبة تهتم بتأمين الحاجيات من الخان قبل حلول العطل والأعياد الرسمية على وفرتها.
«لا»، تقول طهران، القائد لم يمت، لكن السؤال في شارعها لا تقل حدته عن تلك المتحكمة برواقين أو ثلاثة في «البيت الابيض» و«البنتاغون» ومبنى الاستخبارات المركزية. فالايراني من جيل الثورة وما تلاها، عرف أشكال الدورة النخبوية كلها، كتغيير الرؤساء والحكومات ومدراء القطاعات المختلفة، وحتى داخل المؤسسات العسكرية والأمنية. لكن الايراني هذا نفسه لم يعرف بعد الإمام الخميني الأب المؤسس لجمهورية الثورة سوى وريث واحد، وهو الأمر الذي جعل من فكرة رحيل الوارث هاجساً يتمحور حول عنوان «ماذا بعد؟».
تبقى طبيعة النظام الذي أرساه الإمام الخميني قبل رحيله، بتراتبيته المعقدة، هي مفتاح لحل اللغز وتسهيل عملية التوقع، بمعزل عن السياقات الطارئة وغير المتوقعة. والفهرس يكمن في المسار الذي وصل من خلاله قائد الثورة الحالي الى هذا المركز. فالرجل لم يخرج من الظل بعد حرق الأسماء المطروحة لخلافة سلفه كما يحصل في دول الوراثة أو عند استبدال القادة في نطاق الدائرة الضيقة، ووصوله الى القيادة لم يكن نتاج عملية انقلابات متسارعة بنسق استخباري شرقي تقليدي.
قبل دخول الثورة في عقم إنتاج القادة، وتحول المسألة الى صراعات داخلية تتقاطع مع اخرى خارجية، عمل الإمام الخميني على إعداد دستور يكفل استمرارية في تجهيز وإنتاج القيادة، حيث جعل مركز الولي الفقيه نصاً واضحاً في دستور الجمهورية الذي عرض على الاستفتاء العام في كانون الاول 1979، والذي نصت المادة السابعة بعد المئة من الفصل الثامن فيه على التالي: «توكل مهمة تعيين القائد إلى الخبراء المنتخبين. ومتى ما شخصوا فرداً باعتباره الأعلم بالأحكام والموضوعات الفقهية، أو المسائل السياسية والاجتماعية، أو حيازته تأييد الرأي العام، انتخبوه للقيادة، وإلا فإنهم ينتخبون أحدهم ويعلنونه قائداً، ويتمتع القائد المنتخب بولاية الأمر ويتحمل كل المسؤوليات الناشئة عن ذلك».
لكن السؤال الأكثر حذاقة اليوم هو: ما مدى نجاعة دستور الإمام الخميني في إعادة إنتاج القائد أو «رهبر» كما يلقب في ايران؟ وهل في انسحاب الصراع الناعم بين الاصلاحيين والاصوليين الى قلب مجلس الخبراء، أو بالفارسية «مجلس خبركان رهبرى» مقدمة لتأخر أو تعطل عملية إطلاق الدخان الأبيض عندما تستدعي الأمر لحظة رحيل الولي الفقيه مهما طالت؟
86 هو عدد الرجال أعضاء مجلس الخبراء من كبار العلماء والمراجع والمجتهدين في الفقه الجعفري الاثني عشري، والمهمة إبقاء «الثورة» مستمرة عبر اختيار قائد لها، رئيس المجلس آية الله محمد رضا مهدوي كني أحد أكبر أقطاب التيار الأصولي في ايران يرقد في المشفى منذ مدة طويلة، يوازيه بالقوة والوزن سلفه في رئاسة المجلس آية الله هاشمي رفسنجاني الرجل الثاني في ايران، والقطب الذي يعتمد عليه في وصل الإصلاحي بالأصولي وقت الأزمات، ولكونه مرشحا دائما على الأقل لدى أوساط نخبوية وشعبية لخلافة السيد خامنئي، إلا أن الرجل لم يبد في معظم الأزمات طموحات تتعدى الحفاظ على وضعه المميز ومشورته في قلب عملية صناعة القرار.
والعامل الذي يطمئن النظام حالياً هو أن مجلس الخبراء برغم احتوائه على تيارات سياسية متعددة، إلا انه بعيد عن الانقسام الحاد بين معسكري الإصلاحيين والأصوليين. ربما كانت نتائج هذا «الستاتيكو» وصول شخصية مقربة من الطرفين، أي حسن روحاني الى رئاسة البلاد. يضاف الى عوامل الاطمئنان الايراني غياب الصراع العقائدي الذي يهدد أسس الجمهورية. فبعد مرور سنوات على انتعاشة مفاجئة لإصلاحيين مقربين من الغرب ابان حكم الرئيس محمد خاتمي، وعودتهم الى واجهة الحدث السياسي بعد إعادة انتخاب الرئيس السابق محمود احمدي نجاد في الثاني عشر من حزيران 2009، باتت الامور أكثر توازناً اليوم.
فالظواهر ذات الثقل الإعلامي العربي والغربي كالسيد حسين علي منتظري، المعارض الاول لولاية الفقيه ومير حسين موسوي الذي نافس نجاد على ولايته الثانية، أثبتت فشلها في الحشد خارج الاطار الضيق للكاميرا الطهرانية، مع العلم ان قسما من الايرانيين ليس من أنصار الولاية أو حتى النظام الحاكم برمته. وبغياب الشخصيات ذات الخلفية الإشكالية أو المشروع الإشكالي، تبدو الصورة في إيران اليوم وعلى الأرجح في الغد القريب أكثر استعدادا لتمرير انتخاب سلس لقائد جديد متى استدعت الضرورة.
أما على ضفتي الاطلسي من باريس الى واشنطن، فتبدو الصورة أكثر قتامة. فالغربيون في تعاطيهم مع ملفات الشرق القديم لا يقبلون بالموجود من دون محاولة تعديله على شاكلة تسويقهم له. وبمعزل عن سياسات الاحتواء والحروب الناعمة وتدوير الزوايا والشد والجذب بين الغرب والجمهورية الإسلامية، تبقى الأخيرة عاملاً مجهولاً في حسابات المستقبل وتبدلاته، واشنطن ترفض القبول بحقيقة أن هناك نظاماً عميقاً قادراً على التجدد من دون انقلابات عمودية في العقيدة والهوية. الغرب لا يقبل أن دولة كإيران استطاعت استيلاد نظام شبيه بالمعمول به في الولايات المتحدة، عبر افتعال التناقض الناعم وحفر الخنادق السياسية غير العميقة وتجزئة الساحة السياسية بشكل لا ينعكس تهديما للهيكل على رؤوس الجميع. النموذج الايراني في الحكم، بمعزل عن جزئيات التطبيق العملي، نجح في احتواء التناقض، وان شهد الأمر اختراقات بفعل تداخل عوامل خارجية ومحلية، منها أخطاء فادحة لشخصيات لم يكن مرورها سلساً أبداً، كالرئيسين «الاصولي» أحمدي نجاد «والإصلاحي» محمد خاتمي.
صحيفة السفير اللبنانية