مسيرة الأعلام» في الميزان: فلْنشذّب معادلة «سيف القدس»
سجّلت إسرائيل، أوّل من أمس، «انتصاراً بالنقاط»، علنياً وواضحاً، لن تتردّد جماعات أقصى اليمين في توظيفه لصالحها في الكباش الداخلي، خصوصاً على أبواب الانتخابات المقبلة لـ«الكنيست». على أن هذا «الانتصار» لا يعني انهيار المعادلة التي أفرزتها معركة «سيف القدس»، بقدْر ما يقتضي تشذيبها وتخليصها من «الحمولات الزائدة» التي رسخت في الوعي الفلسطيني، وقادت إلى خيبة الأمل التي أعقبت أحداث الأحد. وعلى رغم أهمية تلك المراجعة وطابعها الملحّ، إلّا أن الأكيد أيضاً أن العدو، وإن لامس الخطوط الحمر، فقد حرص على عدم تجاوزها، وأنّ «مسيرة الأعلام»، وإن منحتْه انتصاراً معنوياً، غير أنها أظهرت في المقابل تراجُع سقوفه، إلى حدّ اضطراره إلى استنفار كلّ طاقته لتنظيم مسيرة في مدينة يحتلّها منذ أكثر من خمسة عقود.
في حكمة ما بعد الفعل، الكلّ حكماء. هذا هو واقع عدد من المحلّلين والمعلّقين بعد «مسيرة الأعلام» الصهيونية في القدس، والتي انتهت من دون تدخُّل عسكري من قطاع غزة، ومن ثمّ من دون حرب يتعذّر تقدير مستواها. هل أخطأت فصائل المقاومة حيث أصابت إسرائيل؟ أيّ إجابة تخلو من استحضار مقدّماتها، لن تكون على قدْر الحدث ودلالاته. نجحت أجهزة الأمن الإسرائيلية، على اختلافها، في إنهاء المسيرة من دون أن تتسبّب بالانزلاق نحو مواجهة مع القطاع، ما كانت لتقتصر على مناوشة فحسب. وهو نجاحٌ، وإن تضافرت في تحقيقه إجراءات قمعية بحقّ الفلسطينيين عبر منع تجوّلهم في الأرض المحتلّة وتسجيل اعتقالات لعدد كبير منهم، وكذلك وساطات الدول المطبّعة مع العدو، والتي طرحت أمام قيادات فصائل المقاومة في الداخل والخارج «العصا والجزرة»، إلّا أن أحد عوامله الرئيسة أيضاً هو حرص العدو على أن لا تكون إصبعه رخوة على زناد البندقية – بالنظر إلى أن أيّ ارتخاء من هذا النوع كان سيشكّل الشرارة التي ستشعل المواجهة مع غزة، كما في القدس والأراضي المحتلّة عموماً -، وفي الوقت نفسه تلقّي الفصائل وعوداً عبر الوسطاء العرب ظلّت مكتومة إلى الآن.
وعلى أيّ حال، سجّلت إسرائيل «انتصاراً بالنقاط»، علنياً وواضحاً، شكّل موضع تبجّح في تل أبيب، وتحديداً لدى اليمين المتطرّف، الذي تعامل مع نجاح المسيرة على أنه مكسب له في المواجهة الداخلية، من شأنه تعزيز مكانته في السباق نحو اليمينية، التي باتت تُعدّ واحدة من أهمّ سمات أحزاب إسرائيل وتكتّلاتها السياسية. وهو مكسبٌ سيحصد عائده المتطرّفون من أقصى اليمين في الانتخابات المقبلة لـ«الكنيست»، والحديث هنا تحديداً عن حزب إيتمار بن غفير، تلميذ الإرهابي الحاخام مائير كاهانا. في موازاة ذلك، سُجّلت غلبة للصهيونية الدينية على حساب الأحزاب العلمانية، من يمينية أو يسارية أو وسط، وأيضاً على حساب الأحزاب «الحريدية». ومردّ هذه الخشية، التي جرت المبالغة في تنميتها، ردّ الفعل المحتمل من الفلسطينيين، سواءً من قطاع غزة أو الأراضي المحتلة، ما يحتّم على جزء من جمهور تلك الاتجاهات الاصطفاف إلى جانب الصهيونية الدينية. وإذ نجحت المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية في تقدير نيّات الطرف الآخر، فإن ما ساعدها في تثمير تقديراتها هذه، الإجراءات التعسّفية والقمعية التي سبقت المسيرة وأعقبتها. والحديث هنا عن إقفال المحالّ التجارية للفلسطينيين في القدس، وإبقائهم في منازلهم ومنعهم عبر التهويل والاعتقالات من الخروج منها، ومنع أفراد وجماعات فلسطينية من خارج القدس من الوصول إليها، بما يشمل فلسطينيّي عام 48. على ضوء ما تَقدّم، يمكن توقّع أن تبدأ «مسيرة الأعلام»، العام المقبل، من المكان الذي انتهت إليه هذا العام: تكرار تجربة القمع على قاعدة «العصا والجزرة» التي ستظلّ ممدودة إلى قطاع غزة، رفع عدد المشاركين المتطرّفين في المسيرة بما قد يفوق الـ70 ألفاً الذين شاركوا العام الجاري، إلى أكثر من مئة ألف، وفق بعض التقديرات، علماً أنه في أعقاب مسيرة 2010، التي فاق عدد المشاركين فيها 100 ألف، قرّرت تل أبيب منع «مسيرات الأعلام» من 2011 إلى 2016، لتعود مع 50 ألفاً وبضوابط خاصة عام 2017. وأيّاً يكن، فالمسألة مرتبطة بتقدير المؤسّسة الأمنية لتداعيات الخطوة ومدى إمكانية احتوائها.
في المقلب الآخر، ضربت الوعيَ الفلسطيني موجة خيبةُ أمل وإحباط، قد توازي فرحة المتطرّفين الإسرائيليين. ويعود ذلك إلى جملة أسباب، منها ما هو فلسطيني في الأداء والوعود، والتقديرات المثقلة بعوامل ثقة زائدة. إذ تَوقّع عامّة الفلسطينيين أن تقرّ إسرائيل، في اللحظة الأخيرة، إلغاء «مسيرة الأعلام» أو حرف مسيرها عن الأحياء الفلسطينية. وقد كان هذا التوقّع مبنيّاً على المفاعيل النفسية للمعادلة التي أرستها معركة «سيف القدس»، وعنوانها الربط بين قضايا القدس والحرم القدسي والتدخّل العسكري من قطاع غزة. على أن الحقيقة أن أيّ معادلة تُفرض على العدو، تظلّ معادلة سيّالة في ذاتها، وما لم يتمّ تثبيتها أو تنميتها فستكون عرضة للانكسار أو الثقوب، وهو ما يوجب التمييز بين اتّجاهَين متقاربَين جدّاً: أن تكون المعادلة موجودة وفاعلة، وأن يُتوقّع منها تأثير زائدٌ عليها، وهنا وجه اللغط على الأرجح. معادلة «سيف القدس» لا تزال قائمة، لكنها تتحرّك تحت سقوف معيّنة، محدّدها الرئيس الإضرار الفعلي بالمقدسيين والحرم القدسي، وهو ما لم يحدث في واقع الأمر، وما حرص العدو أيضاً على مجانبته وإن لامسه. وعليه، يمكن القول إن خيبة الأمل مرتبطة بتثقيل زائد للمعادلة المشار إليها، تولّته تصريحات ومواقف وكتابات وعدت بما يتعذّر تنفيذه، أو أن تنفيذه غير يقيني، علماً أن صدقيّة التهديد هي الأصل فيه، وإلّا لكان وجوده كعدمه، بل إنه قد يتحوّل إلى مصدر إضرار كبير، من شأنه أن ينسحب على قضايا أخرى في الصراع أيضاً.
على رغم ما تَقدّم، يجدر الإقرار بأنه يتعذّر على الفصائل أن تفعّل قوّتها العسكرية لمجرّد خروج مسيرة إسرائيلية، وإن كانت استفزازية، وهي مسيرة تُقام كلّ عام منذ 1968، على رغم ما طرأ عليها لاحقاً من تطوّرات، بل إن ما سُجّل هذا العام يُعدّ، في وجه من وجوهه، نجاحاً فلسطينياً بلا أثمان فعلية مقارنة بمسيرات الماضي؛ إذ إن العدو، بكلّ قوّته وأجهزته الأمنية والعسكرية وعلاقاته مع الحليفَين العربي والدولي، إضافة إلى سياسات «العصا والجزرة»، وقف مستنفراً كي يمكّن مستوطنين من الخروج في مسيرة في مدينة يحتلّها منذ أكثر من خمسة عقود. وهذه مفارقة تستدعي البحث والتأمّل طويلاً.
صحيفة الأخبار اللبنانية