مسيرة حقوق المؤلف… منذ ما قبل التاريخ إلى «غوغل» وأخواتها
كتب الشاعر والناقد المصري الراحل إبراهيم عبدالقادر المازني في مقدمة كتابه «حصاد الهشيم»، مخاطباً القارئ، يقول: «هذه مقالات مختلفة في مواضيع شتى كُتبت في أوقات متفاوتة وفي أحوال وظروف لا علم لك بها ولا خبر، وقد جُمعت الآن وطُبعت، وتباع المجموعة منها بعشرة قروش لا أكثر، ولستُ أدعي لنفسي شيئاً من العمق أو الابتكار أو السداد، ولا أزعمها ستحدث انقلاباً فكرياً في مصر، ولكني أقسم لك أنك تشتري عصارة عقلي وهو واسع ومجهود أعصابي وهي سقيمة. تعال نتحاسب… إن في الكتاب أكثر من أربعين مقالًا تختلف طولاً وقصراً وعمقاً وضحولة، وأنت تشتري كل أربع منها بقرش». رسالة المازني للقارئ، التي مر عليها أكثر من مئة عام، تمثل دلالة واضحة على هدر حقوق المؤلف. وفي ظل ثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصالات، والابتكارات السريعة المتلاحقة التي أخذت طريقها إلى حيز الوجود من دون تخطيط مسبق، من برامج الكومبيوتر إلى قواعد البيانات إلى مواقع الإنترنت، ما اتاح سهولة النشر وسرعة تداول ملايين المحتويات العلمية والأدبية والفنية في الإنترنت، اصبح الأمر أكثر تعقيداً.
إنّ حق المؤلف كـنظام قانوني قائم بذاته لم تلحظه القوانين القديمة، وإن كان البعض يرى أنّ هذا الحق موجود في السابق بصورة او بأخرى!
وفريق آخر يتبع نظرية أنه لم يكن هناك من ضرورةٍ ملحة أو حاجةٍ ماسة تستدعي تدخل القانون لإقرار حمايةٍ حقوق المؤلف. فكما هو معلوم مرت البشرية بمراحل عديدة كانت الظروف هي ما يستدعي ايجاد شريعة للحماية ولو بشكل طفيف. فابتدأ بالنقش بالالات الحادة على جدران الكهوف والصخور، والكتابة على الالواح الطينية بالسن الرفيعة واوراق سعف النخل وعظام كتف الحيوان ثم الخشب والمهارق واللخاف، ووصولاً الى أوراق البردى والجلود المدبوغة (الرق) ومن ثم الورق الذي اخترعه الصينيون في القرن الاول والثاني، فمطبعة غوتنبرغ في القرن الخامس عشر، وآلة هنري ميل الكاتبة في ١٤٤٠م، وأخيراً مع قدوم عصر الاتصالات والانترنت، كان لكل مرحلة من هذه المراحل احوالها وقوانينها التي لاتناسب التطورات التي ستلحقها.
وبحسب ما هو معروف في التراث ان المؤلف لم يكن في حاجة ماسة لحماية حقوقه لسببين: صعوبة النسخ اولاً وثانياً انه لا يستفيد من نتاجه في البيع بقدر ما يستفيد من مكافآت الحكام او من يشجعون الاداب والعلوم والفنون حينها. وبالرغم من انه لم يكن هناك قوانين تحميه، كانت الاعراف والعادات تحارب السرقة في شكل عام، ويتعاون الجميع على نبذ من ينسب أفكار غيره لنفسه. ولنا سابقاً في كتاب «الفارق بين المصنف والسارق» لجلال الدين السيوطي خير مثال..
مثال آخر هو نجيب محفوظ الذي قال إنه كان يفضل أن يكون موظفاً، لأن الأدب لم يملكه شيئاً، وكان هذا رداً على سؤال أحد الصحافيين له: «هل كان من الأفضل أن تظل موظفاً أم أديباً؟» وكان رده: «كان أفضل لي أن أظل موظفاً، فمن أين آكل إذا كان الأدب لم يملكني شيئاً».
الطباعة من دون حسيب
بدأت مسيرة حماية المؤلف فعلياً بعد اختراع المطبعة، حين اصبحت دور النشر تطبع دونما رقيب أو حسيب، ما حدا بمجلس شيوخ البندقية ان يبدأ مسيرة الحماية عن طريق اعطاء الامتياز لأصحاب الدور، وكان الدي مبتكر الخط المائل صاحب أول امتياز بطباعة مؤلفات ارسطو، وليس بعيداً عند البندقية كان الملك لويس الثاني عشر يعطي الامتيازات بنشر رسائل ومصنفات القديسين. وأستمر الحال حتى جاءت الملكة آن، ملكة بريطانيا، وشرعت اول نظام لحقوق المؤلف عام ١٧١٠م.
دولياً، بدأت الحماية بالمؤتمر الادبي في باريس بتاريخ 11 حزيران 1878، واستتبعه عقد اتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية بتاريخ 9 أيلول 1886، هذه الاتفاقية خضعت في أكثر من مرة للتعديل والإضافة، وقد انضم إليها معظم دول العالم. كذلك، كانت الحماية موضع اهتمام يونيسكو التي نظمت في جنيف الاتفاقية العالمية لحق المؤلف بتاريخ 6 أيلول 1952، أضف إلى ذلك إقرار العديد من الاتفاقيات، منها اتفاقيات على صعيد المنظمة العالمية للملكية الفكرية، انطلاقا من الأهمية الاقتصادية للمصنفات الأدبية والفنية. وبهدف حماية الملكية الفكرية في إطار التجارة العالمية، تم بتاريخ 14 نيسان 1994 إقرار اتفاق جوانب حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة والمعروفة باسم «تريبس» TRIPS والمنبثقة عن اتفاقية «غات» GATT.
وعلى رغم كل ما تم الاتفاق عليه، لا تزال حقوق المؤلف تعيش صراع المدرستين الفرنسية والاميركية، الصراع بين «حق المؤلف» و«حق النسخ» (أو الاستخدام)، فالاخير يهدف إلى حماية الاستثمارات أكثر من حماية حقوق المؤلف وهو الركن الاساس في المدرسة الفرنسية. ومن هنا تبدأ قصة الصراع الاوروبي مع غوغل: تزداد أرباح الشركة فيضيّق عليها الخناق. وعندما تفشل في المنافسة تشتري المنافس… وإذا أنت أخذتَ ما لم تقله تأخذ منك ما لا تعرفه. غوغل تعيش هذه الفترة مرحلة جديدة من المعارك، بعد ان كسبت قضيتها الشهيرة ضد جمعية المؤلفين واصبحت تلتهم المحتوى العالمي بكل أنواعه وتعيد نشره بما يعود عليها بالربح. شركة الاعلان ومحرك البحث الذي تحول الى ذاكرة عملاقة تتضخم مع الوقت. وما يفوت غوغل انها تُقتل احياناً بأسلحتها! فنظرية «الاستخدام العادل» التي اقنعت بها القضاة الاميركيين يوماً ما، يستخدمها أعضاء البرلمان الاوربي اليوم في مواجهة الشركة العملاقة!
٤٣٨ عضو في البرلمان الأوروبي صوتوا في مصلحة اعادة النظر في قانون حقوق النشر والتأليف، القانون الذي ينتمي للعالم القديم وأصبح عبأً ثقيلاً في مواجهة التسارع الرقمي. البرلمانيون قالوا بصوت واحد يجب على المنصات (غوعل وفيس بوك وبقية العمالقة) أن تدفع رسوما لأي محتوى يتم عرضه، وفي المقدمة محتوى وكالات الانباء والصحف… ذلك لأن المنصات كغوغل تستفيد من المحتوى ولا يستفيد منه صانعوه. ولذلك يجب على غوغل أن تتقاسم الفائدة مع أصحابها. ولغوغل رأيها ازاء هذا التعديل، كالعادة، ودافعت عن نفسها وفق مبدأ «حرية الرأي»، وان صناع المحتوى سيكونون محكومين بأنظمة محلية اولاً، ثم رقابة تابعة للمحتوى، ما يؤثر على حرية الرأي.
الجدلية التاريخية في مسألة الحقوق
يسوقنا هذا إلى الجدلية التاريخية في مسألة الحقوق الفكرية – غوغل وضعت هذه الجدلية على المشرحة اليوم أمام العالم وبالأخص أمام قضاة الملكية الفكرية! غوغل تملك كل شيء اليوم ولا تتوانى عن التوسع على حساب المبدعين بتشكلاتهم كافة. وذهبت بعيداً في مشاريعها التي حُكم على غالبيتها بالخسارة، وهذا ليس عيبا ولكنه يلفت انتباهنا الى نزعة هذه الشركة العملاقة.
وستضطر لتغيير سياسة الاعلانات في youtube بسبب انزعاج عدد كبير من المشاهدين من طريقة الاعلانات المفاجأة وغير المناسبة للمحتوى المعروض وستلجأ الى أسرع الحلول، وهو دفع اشتراك مقابل عدم رؤية الاعلانات. وهذا سيقلل عدد المتابعين حتماً ويؤثر على سوق الاعلان. ولا ننسى انها دفعت مئات الملايين لأنشاء شبكة اجتماعية تقهر فيسبوك اسمها google plus لكنها فشلت. وتراجعت كثيراً في ميدان المدونات فـ «بلوغر» blogger الغوغلية تقزمت امام worpress، وخدمة «التخزين السحابي» تتراجع في المراكز مع الوقت بعد dropbox وonedrive المايكروسوفتيه. وعلى مستوى الفيديو الشخصي، يجري فيسبوك بسرعة نحو عدد المشاهدات، معتمدا على سهولة الاستخدام ومشاركة الارباح مع الناشرين. وترجمة غوغل من سنوات وهي بالمستوى المتواضع نفسه وسيسحب البساط من تحتها حتما إن لم تتطور في ظل التطبيقات الجديدة. وحاولت منافسة تويتر وانشأت موقع «جايكو» jaiku وكان نسخة طبق الأصل منه، ولذلك كتب له الفشل في أسرع وقت.
وحاولت منافسة ويكيبيديا من خلال موقع «نول» وبذلت الكثير من المال والجهد وكانت الاعلانات عن الموقع جاذبة ومثيرة، واتيحت الفرصة لأن يتقاضى كتاب المحتوى أجورا على ما يقدمون، ولكن المشروع تقهقر في النهاية وانتهى. وهناك ما يقارب ٤٠ مشروعاً اغلقتها غوغل وبالإمكان معرفتها من خلال زيارة «مقبرة غوغل».
كل هذا جعل الشركة العالمية اليوم تنظر إلى سوق الاعلان بالذات بحرص وأهمية أكبر. وهو الأمر الذي جعل من البرلمان الاوروبي يعدل قانون حقوق النشر، إذ صوّت أعضاء البرلمان الأوروبي لصالح تبنيه، والهدف الأساسي منه هو ضمان أن يتم تعويض الناشرين والفنانين بشكل عادل من المنصات مثل غوغل وفيسبوك. التعديل الجديد، يرتب على شركات الإنترنت تحسين المكافآت التي تدفعها لمنتجي المحتوى الرقمي ومطوريه، وإعادة النظر في «الحقوق المجاورة» لناشري الأخبار من وكالات أنباء وصحف وغيرها، مقابل إعادة استخدام موادها في الإنترنت… وكل ذات صلة بحق المؤلف التي يتم من خلالها منح الحماية لفناني الأداء، ومنتجي التسجيلات الصوتية وهيئات الإذاعة التي تساعد المبتكرين على إيصال رسالتهم للجمهور ونشر أعمالهم.
ويشمل ذلك أيضاً استخدام أي اقتباس من مقالة، كما يلزم هذا التعديل عمالقة الإنترنت ببناء أدوات تضمن التصفية التلقائية للمحتوى المنشور على منصاتها. وكانت التعديلات أولا في المادة 11 التي تتطلب من مواقع مثل فيسبوك وأخبار آبل وأخبار غوغل أن تدفع للناشرين مقابل مشاركة محتوى منهم. ومن المحتمل ان تكون هناك ضريبة على كل رابط وعلى جميع عمليات تبادل المعلومات على الإنترنت، وعلى سبيل المثال أي معلومة في موقع مثل موسوعة «ويكيبيديا». والمادة الأخرى هي المادة 13 التي تلزم منصات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب وإنستغرام، أن تكون مسؤولة قانونا عن المحتوى الذي يرفعه المستخدمون على منصاتها.
كما تلزم المادة تلك المنصات بإبرام اتفاقات مسبقة مع أصحاب الحقوق واتخاذ الإجراءات اللازمة، لإزالة المحتوى غير القانوني وإقامة مرشحات تلقائية (فلاتر) لتصفية المحتوى، على غرار نظام «هوية المحتوى» الذي ينفذه موقع يوتيوب منذ عشر سنوات.
جميعنا نحب غوغل ولا ننكر أهميتها ولكن علينا أن لا ننسى ان ما تقدمه الشركة ليس مجانياً، فالقاعدة تقول «عندما لا تدفع ثمن سلعة ما فاعلم أنك أنت السلعة».
صحيفة الحياة اللندنية