‘مصر بعيون نساء أوروبيات’ .. تشابهت الرؤى واختلفت الآراء
ربما كان هيرودوت هو المستشرق الأول، أو المستمصر الأول إن صح التعبير، فقد زار مصر لينهل مبكرًا من نبع الحضارة، وليمهد طريقًا كثر سالكوه بامتداد الأزمنة. فقد تبعه باحثون وأدباء ورسامون (للأسف منهم من كانوا طلائع غزو) كل هؤلاء ألفوا كتبًا ونشروا مذكرات، وشت بوقوع أغلبهم فى عشق مصر وسحرها.
عن هذه الزيارات والرحلات قدم الباحث والمؤرخ عرفة عبده علي، عدة كتب أحدثها كتاب ”مصر بعيون نسائية أوروبية”، حيث يرى أن القرن التاسع عشر مثل عصرًا ذهبيًا للرحلة المصرية، خصوصًا مع تولي محمد علي حكم مصر، حين بدأت أوروبا بإرسال مبعوثيها، سواء من أجل تقديم المعرفة الناجزة عن “الآخَر” وطرح فكرة التنوع الحضاري، أو بهدف التوسع السياسي، أو بهدف مواجهة تاريخ طويل وحضارة كانت أكثر تفوقًا وقِدَمًا فى العالم، وربما لتغيير مسارهم الثقافي والفكري ليحاكي الثقافة الأوروبية، أو حتى بهدف المغامرة.
كانت مصر من أهم محطات المستشرقين حينذاك، نساءً ورجالاً وسياسيين وعلماء ومفكرين ومغامرين وسائحين، فانصرف الوافدون عن دراسة الآثار الفرعونية التي استأثرت عقودًا بالاهتمام بفعل التغييرات التي أدخلها محمد علي وأدت إلى اتساع نظرة الغريب إلى مصر، ولما اتسعت الرؤية كثرت الكتب التي أبدعها الرحالة.
• تشابه وتباين
ضم الكتاب قراءات لرؤى ست عشرة شخصية من النساء الأوروبيات لمصر، وقد تشابهت كثيرًا فيما يخص آثار مصر وأرضها وطبيعتها الجميلة ونيلها الساحر، لكن تباينت بشدة آراؤهنّ في المرأة المصرية، حيث هناك من رأتها ضعيفة مغلوبة على أمرها، بينما هناك من وجدت فيها سمات القوة والصبر والجَلَد، وراحت تغزل من ثوبها نسيجًا خياليًا أشبه بتاريخ إيزيس وكليوباترا، وهناك من كشفت كتاباتهنّ فيما يخص الرحلة إلى مصر، عن شخصياتهن ودوافعهن الذاتية بأكثر مما قدمن من وصف للبلاد والعباد، وهناك من أبدت احترامها لعادات وتقاليد المجتمع المصري حتى أصبحت جزءًا منه، وربما تقلّدت لقبًا أطلقه عليها الناس في مصر لشدة انسجامها داخل هذا المجتمع وتفاعلها الإيجابي معه، مثل سوزان فوالكان التي أطلقوا عليها “بنت الشعب”، و”لوسى دانى جوردون” التي اعتادت على أساليب المسلمين في حياتهم، والتي أطلقوا عليها لقب “نور على نور”.
وعمومًا فإن دوافعهن وبالتالى أسلوبهن في التفاعل مع المجتمع المصري والتأثر به أو محاولة التأثير فيه، ومن ثَمّ الكتابة عنه، اختلفت من واحدة إلى أخرى، خاصة أن أغلبهن كنّ في الأصل ثائراتٍ على الأوضاع السائدة في مجتمعاتهنّ، فَمَثّلن روح التجديد الذي كانت أوروبا بحاجة إليه عَقِب الثورة الصناعية وما صاحبها من تطورات.
• صور من الحرملك
هل ثمة أثر لجنس الكاتب فيما كتب عن مصر، ولم قصر صاحب الكتاب اهتمامه على العيون النسائية؟ لا يتركنا الكاتب للتخمين بل يجيب قائلا: “هناك من النساء من كُنَّ أقدر على هذه المهمة من الرجال وأكثر تحمّلًا لمصاعب الرحلة، وأكثر اهتمامًا بتفاصيلها، وأكثر ولوجًا في عمقها، فبينما ينظر الرجل إلى العالم بصورة رأسية، تنظر المرأة إليه بصورة أفقية، فتحتوي كل تفاصيله، وتسجلها بدقة متناهية، وربما تضفي على مدونتها للرحلة، سمة الشاعرية في الكتابة، حيث إنها تستشعر مكامن الجمال في الرحلة أكثر من الرجل لغلَبَة الحس الأنثوي فيها، حتى النساء اللائي خُضنَ التجربة لأهداف سياسية، كُنّ أكثر دقة وفائدة لبلادهن من أمثالهن من الرجال، إذ سُمِحَ لهنَّ بالولوج إلى عالم الحريم – حين لم يكن بمقدور رجلٍ الاقتراب منه ولو من بعيد – والدخول في قلب المجتمع المصري بكل طبقاته وعلى اختلاف وتنوع الحياة الاجتماعية فيه”.
فقد تمتع الحرملك بحرمة تمنع أي رجل من الاقتراب منه. حتى في أوقات الزيارة لم يكن بمقدور رب البيت الاقتراب من الحرملك إذا شاهد نعل امرأة عند الباب.
“سوزان فوالكان” واحدة ممن أتيح لهن دخول الحرملك، ووفقًا للكتاب، فمذكراتها تعد الأكثر شجنا من بين كل ما كتب في أدب الرحلة عن مصر، وقد بدأت ذكرياتها من الإسكندرية والظروف القاسية للعمال المصريين خلال حفر قناة المحمودية، وترصد مظاهر الشرق على حياة الشعب، فكتبت “إن هذا الشعب يبدو عبقريا في صمته أو في صمته العبقري” عندما يواجه صعوبة الحياة بلفظة “الله كريم”.
ورصدت سوزان حياة المرأة المصرية، والتي اعتبرتها الوحيدة الناجية من الستار الحديدي الذي أحاط بالحياة المصرية عموما، وعن المرأة تكتب “النساء أجسادهن لا بأس بها، فهن لا يخضعن لأي نوع من القهر، وبالتالي تنمو أجسادهن بشكل طبيعي تجعلها أشبه بانطلاق النخيل. والفلاحة المصرية تضع البرقع ولكن خلف هذا القناع تبدو فتنة العيون واللون البرونزي المحبب للعيون. والمرأة المصرية عامة قد لا تكون جميلة لكنها تتميز بالرقة والجاذبية والابتسامة البيضاء والضحكة الصافية الصادرة عن القلب مما يجعل من هذا الجمال المتواضع إشراقة فاتنة”.
أما صوفيا لين بول، ففي مذكراتها أفاضت في وصف الطبيعة المصرية ومناظر النيل خلال رحلتها من الإسكندرية إلى القاهرة. وفيها طافت على حمار بملابسها الشرقية ولم يظهر منها سوى عينيها بالشوارع العتيقة والأسواق والقلعة ومارستان قلاوون والمساجد والحمامات العامة وشاهدت مواكب الزفاف، والجنازات والمحمل ومظاهر شهر رمضان. ربما متأثرة بكتابات شقيقها إدوارد وليم لين، وكانت صوفيا لين بول أكثر تقديرا للمصريات، وأكثر فهما للعادات والتقاليد المصرية، فلم تترك عقلها للأفكار المسبقة عن مصر والشرق بعامة، وقد أتيح لها زيارة الحريم العالي إذ قامت بزيارات عديدة لحريم محمد علي، وحريم عدد من الأعيان، وعن أثر هذه الزيارات كتبت انطباعاتها التي نشرتها تحت عنوان “امرأة إنكليزية في مصر – رسائل من القاهرة” التي تنظر إلى عالم الحريم في ظل مقارنته بالمرأة الأوروبية، دون نظرة الهوس المعهودة لدى المستشرقين، فتذكر أنه إذا كان الرجل طاغية، تصبح زوجته جارية له، ولكن هذه حالات نادرة.
ومن الغريب أن حياة المرأة المسيحية الأوروبية لم تكن تختلف كثيراً عن حياة المرأة في الشرق، فالمرأة في أوروبا ظلت مكبّلة بأشد القيود حتى نهاية القرن التاسع عشر، وفي موضع آخر قالت “لا يستطيع أجنبي أن يحدد بالضبط مقدار الحرية التي تتمتع بها النساء دون أن يختلط بالمجتمع الشرقي ( …) وأجدهن دون استثناء واحد في نطاق معارفي مرحات منشرحات الصدر مما يؤكد لي أنهن يلقين معاملة حسنة”.
وهكذا أسهمن في تقديم صورة واقعية عن الحرملك بعدما سادت في الغرب صور خيالية كانت نبتا لتهويمات خيال فنانيهم.
يشار إلى أن كتاب “مصر بعيون نسائية أوروبية”، للكاتب عرفة عبده علي، صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، 2017.
ميدل ايست أونلاين