“مطماطة” رواية تجسيد الأحداث
التجسيد هو تحويل كل ما هو مادي أو معنوي إلى إنساني، نفث الروح في الأشياء ومنح الحواس والإدراك للكائنات غير العاقلة وإلباس الأفكار كساء بشريا. وقد عجت رواية “مطماطة” لعثمان لاطرش بالتجسيد، فكل الكائنات تنزاح عن صورتها الطبيعية والأفكار والتهيؤات تخرج من طور التمثل لتلتحف بصور بشرية. وكل الشخوص تتحول الى شخصيات.
فالتجسيد هو منح الصفات البشرية للأفكار والطبيعة. وتحويل الوجداني والانفعالي إلى ملامح إنسانية حية ناطقة، ومن ثمة كانت “مطماطة” رواية سطرت بلغة حية تنأى عن نقل الحقائق والوقائع العادية لتعبر عن واقع الإنسان وهي لغة متمرسة بخبرات روحية في تعبيرها عن الواقع الذي تعيشه.
ولئن كتبت رواية “مطماطة” بعد الثورة التونسية بسنوات، فقد زخرت بأحداث متأزمة تعود بنا الى سنوات ما قبل الثورة، حيث عاد عثمان لاطرش إلى تجسيد وقائع مغموسة بقتامة خنق الإحساس وتصوير مشاهد مأساوية أكثرها تأزما القبض على صابر المعارض الثائر ليلة زفافه، والغربة القسرية في باريس هربا من ممارسات القمع السياسي.
التجسيد يرتبط بالصورة المرئية بشكلها وحجمها وإدراكها البصري حيث تتخذ الأفكار والانفعالات أشكالا وأحجاما، وبالتالي مفردات تعيشها شخصيات الرواية مثل الظلم والعدالة والحرية والنفي
ولم ينفصل تجسيد الحدث القصصي عن تجسيد تمثلات المعتقد الشعبي فتمظهرات الحدث من تمظهرات قوة لا مرئية أيضا تحول الأحداث إلى ممارسات قدرية تجسد فكرة خنق الحرية، فأي حرية يحلم بها صابر في بيئة تسمى الظلم بصورة كائن أسطوري يزرع الخوف “الغول الأبيض”؟ فالكاتب عثمان لطرش يتوخى الكتابة عن الحدث بتراكماته وتداخل سجلاته بلغة تنزاح عن نقل الواقع آليا إلى أخرى تستبطن تجربة فكرية روحية في ترويض اللغة وشحنها بأسلوب متفرد، فحكاية “مطماطة” ليست رواية الجبل بل سلسلة جبال وبين جبل وجبل فصول تنفذ من دروب لغة شاقة إلى أخرى تتمرس بالأزمات وتنفث الروح في الجماد.
إن التجسيد المأساوي للأحداث يعيد تمثيل مشاعر مخزونة حول الرغبة في تجسيد الحرية والعدل والأمن وتحرر من لا وعي ترسبت فيه أوحال متعفنة تخندق الإنسان في آلة الدكتاتورية؛ فكان تجسيد درامية الأحداث عودة إلى الذاكرة واللاوعي الجماعي. وارتباط بالتنقل في الزمان / الذاكرة والحاضر، والتنقل في الأمكنة بين مطماطة وباريس. الوطن والغربة لتجسد فكرة الحرية المفقودة. لذلك يجسد الحدث تفاعل أكثر من طرف يضفي على الصراع أكثر من سبب ويبلغ ذروة الأزمة والتأزم، ليؤثر على القارئ والحدث بطبقاته المتعددة/ الواقعية والقدرية والفنية كفيل بتجميع آثار تجارب وجدانية وحسية حول القبض على سجين سياسي ليلة عرسه.
الصراع بين الشخصيات يتجاوز الصراع العادي إلى صراع أسطوري، الصراع بين البشر وبين الغول، الصراع بين الإرادة والخوف في استثارة واضحة للاشعور الجماعي عند الأفراد أو فكرته حول وقائع تكتسي أبعادا فيسيولوجية ونفسية واجتماعية، تعبر عن المرجعية التاريخية والمعرفية للمؤلف.
و”مطماطة” هي ابنة السجين السياسي “صابر” الذي اختار العيش في فرنسا بعد الخروج من السجن، اسم فتاة نسبة إلى مكان فهي تحول المكان بكل تضاريسه إلى صورة مجسدة ولدت من رحم معاناته، المكان المفقود الذي يسكنه الغول الأبيض نسبة إلى السلطة المستبدة، تلبس المكان الجامد الثابت ثوبا إنسانيا، فمن خلال صخوره الصماء المغلفة بالصمت، المكان الذي يدلل على القمع وعلى الصمت وعلى وأد لغة الرفض، فاللغة تخرج الحي من الميت، تهب الروح للحلم المجهض.
فكانت “مطماطة” هي الذاكرة التي تشتهي السعادة، وتتمنع عن العودة إلى المكان الذي نزف الحلم، قوض الفرح، سيجه بالقضبان، حيث سلب الأب صابر فرحته ليلة زواجه وزج به في السجن سنوات متراكمة ودلالة الأحداث من دلالة الإنسان الذي يرتكب الأذى ويجتث الجذوع ويقتلع الإنسان عن بيئته عبر ابتعاده القسري إذ أصبح المكان أبويا متوترا يفتقد للامومة :”أحداث حفرت في ذاكرتها عميقا بمعول الظلم وفاس القهر”.
“مطماطة” هي الجبل التائه في حالة ذهول وغياب العقل. هي الجبل الباحث عن تجسيد يعيد له المعنى ويعيد له الفكر، هو مكان خاضع، ساكن . “كان الجبل يهيم وراء سامح دون أسئلة”.
هو المكان المفقود، الغائب، المشرع على العودة، هو الحميمي، الدافئ، الكريم. “جبل صامد صامت عار أجرد .. لا يمل من أهله وزواره .. يستقبل الوافدين بأحضان مشرعة والتجسيد يرتبط بالصورة المرئية بشكلها وحجمها وإدراكها البصري حيث تتخذ الأفكار والانفعالات أشكالا وأحجاما، وبالتالي مفردات تعيشها شخصيات الرواية مثل الظلم والعدالة والحرية والنفي عبر البحث في سبل جمالية تنقل الواقع الظاهر وتتعمق الى ما بطن من أفكار جوهرية، وحين يسترجع المكان المسلوب كرداء الدفء، يكون قد خلعه عن مكان الغربة وتركها للفراغ ونتوءات الروح، فجماله آفل وجاذبيته غير دائمة بما أنه مأوى عابر.
“خلعت باريس رداءها الجميل فسقطت أوراق أشجارها فقدت ألقها وأعلنت جنونها“.
“الطبيعة يا بنيتي نشأت بحكمة الخالق على توازن، هي أم حنون لا تؤذي بنيها البتة .. نعم تعاقبهم أحيانا وتغلظ لتؤدبهم ولكنها بحنو تسرع لإرضائهم وتداوي جراحهم”.
وفي تجسيده للأصوات فهي جنائزية حزينة في حالات الألم إذ يضع شخصياته في وضعيات هستيرية كمدعاة للانزعاج والضيق صوت الحبيب المفقود :
“الريح تنوح فتجرف رخام الروح”.
ولكنه يملي صوت الفرح الكامن في الأعماق” “زغرد الحنين في أعماقها”.
ميدل ايست اون لاين