مع التسعين
ها أنذا أتجاوز التسعين بعامين في 26 من هذا الشهر الصيفي الخانق ” تموز ” أتذكر الأن ماذا كنت أكتب في هذه المناسبة حين كنت في ريعان شبابي ، فإذا عدت إليه الآن لا أجد مناخ الفرح و الفخر والأمال الكبرى ، فما عساني أقول و قد اقترب موعد الرحيل حتى لقد بتّ أستغرب لماذا تأخر عزرائيل حتى الأن و هو لم يعد بعد الأمانة إلى صاحبها . ما هذا التسامح الكبير الذي يمنحني إياه رب العالمين أن أبقى حتى الآن حيا وأنا أشاهد خيباتي المتتالية في كل الأماني التي حلمت بها …
فلسطين لم تعد إلى أصحابها ، والإشتراكية لم تتحقق كنظام أمثل للعدالة في أي قطر ، و بدلا من الوحدة العربية لم يتحقق سوى المزيد من التمزق بين أقطارها . ها أنذا أعد وأتذكر بذاكرة شاخت و لو أردت أن أفي بتعداد كل أحلامي و هزائمي إذن لسودت مئات الصفحات .
بدأت حياتي فتى رياضيا ولاعبا ماهرا في أكثر من لعبة ، و مؤمناً تقياً بالإسلام ، و باقي الأديان السماوية ، و مع ذروة الشباب صدقت ما كان يحكى عن دولة الإتحاد السوفياتي ، و تقدمت للعمل كمدرس عاشق للغة العربية و آدابها طول أربعين عاما ، و إستبشرت مع كثيرين بالزعيم جمال عبد الناصر قائداً قومياً قادراً على تحقيق ما يردده من تصريحات و خطب صداحة رنانة ، و عشقت في مطلع شبابي فتاة مخلصة في حبها و لكنها توفيت في ريعان شبابها ، و شاركت في تأليف أول إتحاد للكتاب العرب في رابطة سورية تحولت إلى رابطة قومية عربية بعد أن انتسب إليها عدد وافر من الكتاب العرب …إلى … إلى آخر هذه الأمنيات الكبرى فإذا بالمتعصبين دينيا يفسدون الأديان كلها ، كصهاينة سرقوا فلسطين وطوبوها بإسمهم ، وسقط النظام السوفياتي ، غير أنني نجحت نسبيا كمدرس للغة العربية و آدابها في صقل و إنفتاح ملكة الفهم الجمالي السليم لدى كثير من طلابي ، ومات عبد الناصر فجأة و ماتت معه الزعامات التالية و قد تحولت – كزعيمهم عبد الناصر – عهودهم إلى حكومات إستبدادية و قبل وفاة عبد الناصر و في عهد الوحدة بين سوريا و مصر ألغت السلطة الناصرية رابطتنا للكتاب العرب و زجونا كلنا تقريبا في السجن الموحش ..
ماذا أتذكر و أحصي من هذا التاريخ الحافل بالعذاب ، هذه هي حياتي !.. لقد آن لي إذن أن أستريح بعد هذه السنين الشاقة … و لكن هيهات !.. حتى في قبري لن أرتاح بالتأكيد …
إن معجزة الحياة على عظمتها في كوكبنا الأرضي قد شاخت على أيدي البشر الذين خربوا و مازالوا يخربون الطبيعة ، و الحياة فيها حتى ليقال الآن أن مصير الكرة الأرضية هو الخراب قريبا حين تحرقها الشمس التي كانت مصدر الحياة في نهاية هذا القرن تقريبا بعد أن أفسدتها الأطماع و الجهالة البشرية بلا هوادة …
هكذا مع الإثنين و التسعين عاما لم يبق لي سوى بعض قصائد أودع فيها معجزة الحياة …فما عساني أقول و قد فسد كل شيء !!؟…