مع قهوة الصباح
حين رفعت رأسي و أنا مسترخ في غرفة مكتبي على الكنبة ووقع نظري على مشهد مئات الكتب التي تملأ الرفوف الخشبية المرتفعة حتى السقف ، لا أدري لماذا تبادر على ذهني لأول مرة و دفعة واحدة هذا الشعور الكئيب مصحوبا بهذا السؤال:
– حسنا.. لقد قرأت كل هذه الكتب و غيرها .. و غيرها..و صرت كاتبا معروفا و مثقفا مرموقا.. ثم ماذا بعد سوى أصوات القذائف التي تمطر مدينتك التي طالما تغنيت بها تتصاعد أصداؤها حولك ساخرة بك و بكتبك و خواطرك ..! ماذا جنيت بعد كل ما زرعت و حصدت من القراءات و الدراسات و القصائد التي كانت تراودك في شبابك حول بلدك الذي قال عنه ” خالد العظم ” أحد رؤساء الوزارة المتميزين ذات يوم :
(( سأجعل من بلادي سوريا ، سويسرا الشرق الأوسط لو أنكم سمحتم لي بذلك …))
أخذتني هذه الذكريات بين ما قاله خالد العظم لكبار الضباط المسيطرين على دفة الحكم ذكريات عمرها الأن يناهز الستين إلى السبعين عاما … تذكرت أسفاري و دراستي الجامعية و مهنتي المديدة كمدرس لأربعين عاما وعقيدتي التي إنحدرت من جنة التفائل المطلق إلى جحيم التشاؤوم المتفاقم .. تذكرت ما كنت أبشر به نفسي أن الإشتراكية العالمية بقيادة الإتحاد السوفياتي سوف تنقذ العالم البائس قريبا… ثم كيف انكشفت الخديعة حين اكتشفنا جميعاً أن الإتحاد السوفياتي هذا لم يكن سوى دولة بوليسية تمارس الرعب و الجهل … ثم ماذا بعد … إلى أين تقودنا الآن الدول الرأسمالية الكبرى وإلى أين مصير بلادي التي غدت ملعباً للضباع ؟! .. و من هو السبب في كل هذا الخراب المفجع ؟ الديكتاتورية …أم التعصب المذهبي ..أم أطماع الاستعمار الحديثة ؟ وأنت ماذا صنعت بنفسك أيها المثقف والملقب بشاعر الامل و التفاؤل؟.. ها قد غدا تجار البؤس والإحتكار والتعصب والجهل والقسوة أكبر أثرياء العالم الذين يتمتعون وحدهم بالمليارات وأنت بعد عمرك الحافل بالسعي لاكتساب المزيد من المعرفة لا تملك أكثر مما تحتاجه لزاد يومك من مأكل و ملبس متواضعين..
يا سوريا … هل تسمعينني ؟ هل إكتشفت الخدعة كما أنا اكتشفتها، أم ما تزالين على طريق الآمال المهدورة ؟ لماذا كل هذه الكتب أمامي وليس سوى أصداء القذائف و صراخ الضحايا الأبرياء في الغوطة وفي أحياء مدينتي التي أحببتها و ما أزال ؟!..
من أنت في هذا الزحام الذي يطويك و يكتسح ثقافتك وجمالياتك وأحلامك ومسيرتك؟
إنهض قليلاً..إشرب قهوتك الصباحية المرة قبل أن تسقط فيها دموعك…