معركة المزرعة الصينية.. أشرس معارك الثغرة في حرب أكتوبر
وقف وزير الدفاع الصهيوني موشيه ديان مذهولًا لهول المشهد الماثل أمام ناظريه في «المزرعة الصينية»، حيث كان يتفقد القوات الإسرائيلية المتمركزة في نطاق الثغرة على الضفة الشرقية لقناة السويس.
كانت أرض المنطقة تحتقنُ بروائح الموت والبارود، ويفترشُ أرضها حُطام المئات من الدبابات والآليات العسكرية المختلفة من قوات الجانبيْن.
لكن أبرز ما لفت أنظار ديان في تلك المنطقة هو مشهد دبابتيْن محترقتين، مصرية وإسرائيلية، كانتا ملتحمتيْن كأنهما محاربان في العصور القديمة، لدرجة أن مدفع كل منهما كان مصوبًا على الأخرى من المسافة صفر.
علق ديان على ذلك المشهد في تعجبٍ شديد قائلًا: «لقد دمرا بعضهما البعض في نفس اللحظة!».
فيما يلي قصة معركة المزرعة الصينية، إحدى أعنف معارك حرب أكتوبر 1973، التي لم تتوقف فيها الاشتباكات التصادمية نهارًا أو ليلًا بين 15 و17 أكتوبر (تشرين الثاني)، واعتبرت من أهم معارك الدبابات في التاريخ الحديث.
من الثغرة إلى مزرعة الموت
فشل الهجوم المصري في عمق سيناء يوم 14 أكتوبر، المعروف بتطوير الهجوم شرقًا، وتكبَّدت مصر خسارة كبيرة تقدر 250 دبابة في ساعات محدودة من أصل 400 دبابة شاركت في الهجوم، نتيجة التفوق الجوي الإسرائيلي خارج مدى حائط صواريخ الدفاع الجوي المصرية، وفعالية كمائن الدبابات التي نفَّذتها الألوية المدرعة الإسرائيلية المتفوقة عددًا وعُدَّة.
أصبح الآن أمام إسرائيل فرصة سانحة لأخذ زمام المبادرة لأول مرة منذ بدء الحرب.
كانت الخسائر المصرية بالأساس في قوات الاحتياطي الإستراتيجي التي سُحبت من غرب قناة السويس لتنفيذ التطوير، وكانت المهمة الأصلية لتلك القوات – مكونة من الفرقتيْن الرابعة والحادية والعشرين المدرعتين – هي تغطية المفصل الهش بين تمركزات الجيشين الثاني والثالث المصريين، لمنع أي محاولة اختراق إسرائيلية معاكسة في تلك المنطقة الضعيفة دفاعيًا.
كان وجود مثل تلك القوات بكامل عدتها كفيلًا بجعل عملية الثغرة، والعبور الإسرائيلي المضاد، من رابع المستحيلات.
صوَّرت طائرة تجسس أمريكية حديثة الجبهة المصرية بعد فشل تطوير الهجوم، وأكَّدت للإسرائيليين اختلال الموقف الدفاعي المصري في غرب القناة، لا سيَّما منطقة الدفرسوار الواقعة بين الجيشيْن المصرييْن كما ذكرنا.
انتهز الجنرال الإسرائيلي شارون الفرصة، وأقنع القيادة الإسرائيلية بتنفيذ الخطة الإسرائيلية المعروفة بالغزالة أو المروحة، التي كانت معدة لتحويل أي محاولة عبور مصرية إلى هزيمة ساحقة.
وضعت الخطة لاختراق الجيش الإسرائيلي لمنتصف الجبهة ومن ثمَّ العبور إلى غرب القناة، وبعدها تتقدم القوات شمالًا وجنوبًا لاحتلال الاسماعيلية والسويس، وتطويق الجيشيْن الثاني والثالث وقطع إمداداتِهما، وبالتالي إجبار مصر على الاستسلام، أو تدمير الجيشيْن.
كانت فرقة شارون متمركزة بالفعل في منطقة الطاسة، على بعد 40 كيلومترًا شرق القناة، وبصحبتها معدات العبور والكباري العائمة منذ يوم 13 أكتوبر – أي قبل التطوير المصري الفاشل – مما يدل على وجود جاهزية مسبقة لتنفيذ تلك الخطة المضادة.
ورغم الخسائر الإسرائيلية الكبيرة في الأسبوع الأول من الحرب على صعيد الدبابات والطائرات، عوَّض الجسر الجوي الأمريكي المتواصل على مدار الساعة الكثير من الخسائر، وتمكنَّت إسرائيل من توفير 8 ألوية مدرعة (أكثر من 900 دبابة) للعمل على الجبهة المصرية، تقرَّر ترك ثلاثة منها في عمق سيناء للتصدي لأي محاولة مصرية لاحقة للتوغل، بينما صدرت الأوامر للألوية الخمسة الباقية للقيام بعملية الثغرة، التي بدأت مبكرًا للغاية مع مطلع يوم 15 أكتوبر.
معركة المزرعة الصينية.. آلاف الجنود ومئات الدبابات
تقع منطقة المزرعة الصينية على مقربةٍ شديدة من شاطئ القناة، على الضفة الشرقية لقناة السويس التي عبر إليها ما يقارب 100 ألف جندي مصري ومئات الدبابات قبلَ أسبوع. ولم تصبحْ تلك المنطقة هي الساحة الرئيسة للصدام عبثًا، فقد كان مصب القوات الإسرائيلية المتوغلة عبر الطريقيْن الرئيسيْن للاختراق.
وعرفت باسم المزرعة الصينية نسبة إلى مشروع زراعيّ بحثي ياباني، كان يُجرى فيها قبل حرب 1967، وظن الإسرائيليون أن الأحرف المكتوبة عليه صينية، فأسموه المزرعة الصينية.
خريطة التحركات العسكرية بين يومي 15 و24 أكتوبر. القوات المصرية بالأحمر والإسرائيلية بالأزرق. المصدر: قسم التاريح في الأكاديمية العسكرية الأمريكية.
في تلك المنطقة الضيقة التي لا تزيد عن بضعة كيلومترات طولًا وعرضًا، احتشدت المئات من الدبابات والمدرعات الإسرائيلية المندفعة نحو القناة، بينما حاولت الكتائب المصرية القريبة، لا سيَّما ميمنة الجيش الثاني الميداني أن تواجه هذا الهجوم الإسرائيلي الكاسح، والمُركّز في نطاقٍ شديد الضيق، يجعله أكثر ضغطًا على الدفاعات المصرية في تلك المنطقة، التي لم تتوقع قيام الإسرائيليين بهجوم مضاد كبير بتلك السرعة.
وقع العبء الدفاعي الرئيس في ذلك الوقت على عاتق الفرقة 16 مشاة المصرية بقيادة العميد عبد رب النبي حافظ، (في التقسيم المصري آنذاك كانت فرقة المشاة تضم حوالي 15 ألف مقاتل)، وتعاونه وحداثٌ من المدفعية، والصواريخ المضادة للدبابات، مع لواء مُدرع ( في التقسيم المصري يضم حوالي 90 دبابة)، كذلك ما بقي من الفرقة 21 المدرعة، التي تكبَّدت الشطر الأكبر من خسائر تطوير الهجوم في 14 أكتوبر.
وسبق أن تصدت الفرقة 16 مشاة بنجاح لاختراق إسرائيلي محدود يوم 9 أكتوبر قام به لواء مدرعٍ إسرائيلي. لكن هذه المرة، كان التفوق كبيرًا لصالح الإسرائيليين في القوة المدرَّعة في نطاق تلك المعركة كمًّا وكيفا.
على مستوى القوة البشرية، فكان التفوق النسبي للمصريين، وحاول الإسرائيليين تعويضَه بالزج بالآلاف من المظليين الإسرائيليين المكلفين بمهمة بالغة الخطورة، وهي تدمير كتائب الصواريخ المضادة للدبابات المصرية، أو إشغالها، للسماح للدبابات الإسرائيلية بالاندفاع نحو القناة بأقل قدرٍ ممكن من الخسائر، وبسرعة كبيرة، رفقة معدات العبور لإنشاء جسر إسرائيلي للعبور المضاد إلى غرب القناة.
كانت فرقة شارون (لوائيْن مدرعيْن ولواء مظلي) مُكلَّفة باحتلال منطقة صحراوية عرضها حوالي أربعة كيلومترات مع منطقة المزرعة الصينية، وتأمينها جيدًا، وإسكات مصادر النيران المصرية القريبة، حتى يمكن الشروع في إنشاء الجسور، ونصب المدفعية للتمهيد النيراني لمنطقة العبور في غرب القناة.
على غيرِ عادة الإسرائيليين في الهلع من أية خسائر بشرية قد تسببها مخططاتهم الهجومية، فإنَّهم قرَّروا تنفيذ عملية الثغرة بأيّ ثمن، وبقدرٍ كبير من الجرأة المتهورة.
وبينما تصاعدت الخسائر البشرية والمادية منذ نهار 15 أكتوبر نتيجة الدفاع المصري المستميت، ظلَّ التقدم الإسرائيلي مستمرًا، وإن تباطَأ للغاية بفعل المقاومة الضارية.
في مساء 15 أكتوبر، استمرَّت المعارك الضارية، لكن نجح المئات من المظليين الإسرائيليين مع كتيبة دبابات إسرائيلية في التسلل إلى شاطيء القناة، بعد إشغال القوات المصرية القريبة بهجمات في اتجاهات أخرى، ونظرًا لوصول تلك القوات متأخرةً لأكثر من خمس ساعات عن المخطَّط، فإنَّها شرعت على الفور في العبور إلى الضفة الغربية، واستغلَّت المفاجأة في الإغارة على مواقع الصواريخ المصرية المضادة للطائرات في تلك المنطقة، وذلك لفتح المجال أمام الطيران الإسرائيلي للإسناد الفعال.
صباح 16 أكتوبر، وبالرغم من الخسائر البشرية الكبيرة التي تعرَّضت لها الفرقة 16 مشاة المصرية، نجحت قواتها في القيام بهجوم مضاد، وتمكنت من تدمير القوة الإسرائيلية المكلفة بحماية إحدى تقاطعات الطرق الهامة في تلك المنطقة، وقامت وحدات المشاة المزودة بالصواريخ المضادة للدبابات بتدمير أكثر من 27 دبابة إسرائيلية.
أوشكت القوات المصرية على إغلاق منطقة الاختراق، وبالتالي عزل القوات الإسرائيلية المتسللة عن القوة الرئيسة للهجوم، والمرافقة لمعدات العبور الثقيلة.
دفع الإسرائيليون في ذلك الوقت بفرقة مدرعة جديدة هي فرقة الجنرال آدان لإسناد فرقة شارون، مع المئات من جنود المشاة. كما جلبوا لواءً مظليًّا كاملًا من جنوب سيناء، لحسم معركة المزرعة الصينية، حتى يمكن لوحدات الكباري والعبور الثقيلة التقدم لإسناد القوات التي تسللت بالفعل منذ الليلة السابقة إلى غرب القناة.
طوال نهار 16 أكتوبر استمرّ القتال المستميت، وخسر الإسرائيليون المزيد من الأفراد والمعدات. وخلال الليل دارت اشتباكات طاحنة بين المظليين الإسرائيليين والمشاة المصرية في تلك المنطقة، سقط خلالها العشرات من المظليين الإسرائيليين، فدفع الإسرائيليون بالمزيد من الدبابات لدعم المظليين، لتصطدم بالدبابات المصرية الموجودة في ذلك النطاق.
طوال تلك الليلة استمرَّ القتال بين الجانبيْن، لكن حسم التفوق الإسرائيلي في عدد الدبابات وكفاءتها المعركة بنصر باهظ التكلفة. بالرغم من غياب إحصاء رسمي شفاف عن خسائر الجانبيْن، فإنها لن تقلَّ بحالٍ عن مئات القتلي، وتدمير المئات من الدبابات والآليات المدرعة.
بحلول نهار 17 أكتوبر، تمكَّنت فرقة آدان الإسرائيلية من الوصول إلى شاطئ القناة، والبدء في نصب الجسر العائم لتوسيع نطاق الثغرة غربًا، التي كانت بعمق بضعة كيلومترات فقط، واستفاد الإسرائيليون من عودة الغارات الجوية الفعالة نتيجة تدمير حائط الصواريخ المصري في مقابل تلك المنطقة، وبدأ العبور الإسرائيلي الواسع غرب القناة، مع تأمين بضعة كيلومترات شمال وجنوب نقطة العبور إلى منطقة الدفرسوار.
ما بعد المزرعة الصينية.. فشل الهجوم المصري المضاد وتضاعف الثغرة
على صعيد القيادة العامة المصرية لم يكن المشهد طوال يوم 15 أكتوبر جليًّا، إذ كانت التقارير الميدانية الأولى تقلل من حجم الاختراق الإسرائيلي، وقوات العدو التي أصبحت غرب القناة بالفعل.
وعندما اجتمع القادة المصريون نهار 16 أكتوبر لأخذ القرار فيما ينبغي فعله لإجهاض الثغرة قبل أن تخرج عن السيطرة، لم يضع متخذ القرار – القائد العام المشير أحمد إسماعيل – في حسبانه أن هناك مئات الدبابات الإسرائيلية أصبحت تتواجد بالفعل في الجهة الشرقية المقابلة لمنطقة الاختراق، وبالتالي فشل الهجوم المصري المضاد فشلًا ذريعًا.
يروي الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس الأركان في ذلك الوقت في مذكراته الخلاف الذي وقع بينه وبين كلٍّ من المشير إسماعيل والرئيس السادات، وكان الشاذلي مُلمًّا بالوضع على الأرض أكثر من الرجليْن لتكرار زياراته للجبهة.
اقترح الفريق الشاذلي سحب لواءٍ مدرع من الفرقة الرابعة المدرعة – التي شاركت الفرقة 21 في تطوير الهجوم الفاشل – مع اللواء 25 مدرع من شرق القناة خلال ليلة 17 أكتوبر، ليقوما بهجوم مباغت وقوي ضد قوات الثغرة غرب القناة، وهي ما تزال قليلة العدد، واحتلال منطقة رأس الجسر الإسرائيلي، للحيلولة دون عبور أية قوات معادية، أو إقامة أية جسور.
كان الهجوم غرب القناة سيكون تحت حماية قوات الدفاع الجوي المصرية، على عكس محاولة الهجوم من الشرق بعد عودة الطيران الإسرائيلي للنشاط بحرية.
أما شرق القناة، فكان من المفترض – وفق خطة الشاذلي – أن تقوم بقايا الفرقة 21 المدرعة، وقوات الفرقة 16 مشاة بالهجوم على قوات الثغرة شرق القناة لإشغالها، ومحاولة قطع الاتصال بينها وبين القوات المتسللة، لتعجز عن إمدادها.
رفض إسماعيل والسادات مقترحات الشاذلي، وعارضا بشدة سحب أية دبابة من الشرق إلى الغرب، وفي المقابل أمر اللواء 25 مدرع أن يهاجم من شرق القناة من اتجاه الجنوب صباح 17 أكتوبر، باتجاه قوات الثغرة شرق القناة، بالتزامن مع هجومٍ من الشمال للفرقة 21 المدرعة.
فوجئت القوات المصرية المهاجمة بأكثر من ضعف عددها من الدبابات الإسرائيلية، فكانت النتيجة فشل الهجوم من الشمال ومن الجنوب، ودُمَّر اللواء 25 المدرع المصري بشكلٍِ تام بنيران الدبابات والطائرات الإسرائيلية، ووحدات الصواريخ المضادة للدبابات من طراز «تاو» الأمريكية والتي وصلت لتوِّها عبر الجسر الجوي الأمريكي.
وهكذا منذ عصر 17 أكتوبر وحتى انتهاء معركة المزرعة الصينية، بدأت الثغرة الإسرائيلية مرحلة التوسع الكبير، وخلال الأيام التالية حاول الإسرائيليون احتلال مدينة الإسماعيلية غرب القناة، لكن أعاقهم ضراوة الدفاع المصري عبر وحدات القوات الخاصة والمظليين، لكن كان حظهم أفضل جنوبًا، فتمكَّنوا من إتمام حصار الجيش الثالث، وأوشكوا أن يحتلوا مدينة السويس، لولا بسالة أهلها ومقاتليها، ولكن لكل هذا قصص أخرى.
جديرٌ بالذكر أن معركة المزرعة الصينية قد شهدت من الجانبين مشاركة بعض من أصبحوا من أبرز قادة البلدين، فمن الناحية الإسرائيلية كان هناك إرئيل شارون وإيهود باراك، واللذان أصبحا من رؤساء وزراء الكيان الصهيوني، وشاؤول موفاز الذي أصبح من وزراء دفاع الكيان، ومن الجانب المصري كان من قادة كتائب المشاة في الفرقة 16 مشاة المشير – فيما بعد – محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع المصري لأكثر من 20 عامًا، ورئيس المجلس العسكري المصري بعد ثورة يناير 2011.
ساسةبوست