معز زيود… خيبات ما بعد «ثورة الياسمين»
«الأدب مأساة أو لا يكون مأساة الإنسان، يتردّد بين الألوهية والحيوانية وتزف به في أودية الوجود عواصف آلام العجز والشعور بالعجز أمام نفسه» هكذا نقل لنا محمود المسعدي ـــ أحد رواد الوجودية العربية ـــ في كتابه «حدث أبو هريرة قال…» تجربة الأدب كوسيلة فنية للتعبير عن الإنسان وواقعه. كتاب «الحديقة المحرمة» (دار مسكيلياني ـ تونس) لمعز زيود، يصوّر هذا الألم وهذه المأساة والتخبّط والعجز في ما عاشته تونس منذ الثورة مع تفشّي ظاهرة التطرف الديني وسطوة الإسلام السياسي على المجتمع. فعل ذلك من خلال شخصية عبد النبي يوسف وهو رئيس تحرير وأستاذ جامعي خاض غمار الضياع أمام تناسل الفساد واصطدامه بمعطيات جديدة جعلت مغامراته الحسية والمادية أشجاراً يصففها داخل حديقة أطلق عليها الحديقة المحرمة.
تطرح الرواية إشكالات تتعلّق بضياع الإنسان المعاصر أمام التحوّلات التي طرأت على القيم والمفاهيم المجردة مثل الحب والوفاء، وعودة الفكر المتطرف والرجعي بعدما خطت المجتمعات العربية بضع خطوات نحو الانفتاح والتقدم الثقافي والتكنولوجي، لتعود فترزح تحت وطأة عصور التخلّف حيث يحتكم كل شيء للدين. استأثرت ظاهرة الفساد بقسم محترم من الرواية من خلاله تفرع اللوبيات بعد الثورة وتدخلها في مجال الإعلام وصناعة أجندات جديدة خدمة للإسلام السياسي وحلفائه في العالم الذين تهافتوا سياسيين ودعاة إلى تونس طمعاً في بناء إمارة الخلافة.
وهنا نلاحظ أن الكاتب نهل من فن الصحافة الاستقصائية ليشحن شخصية عبد النبي وحبيبته سارة بتفاصيل قصة التخابر ومحاولة استباحة السيادة الوطنية وفبركة الفضائح الأخلاقية بغية الابتزاز. وكان للقضايا الحقوقية نصيب من فصول الرواية، فصاحبها يشير بين الفينة والأخرى إلى مسألة الحريات الفردية وحرية الصحافة والتعبير، وكيف تحاول أطراف بعينها إعادة الصحافي إلى المربع الأول للقمع من خلال تهديده بالتصفية الجسدية أو الإساءة إلى المحيطين به عبر فبركة الفيديوات الإباحية. كما اضطلع الحب والملذات الحسية بدور أساسي في مقاومة الواقع والهرب من إرهاصاته وتحدياته نحو سعادة ولو كانت ظرفية، فكان البطل يتنقل بين حبيباته وخاصة «ياسمين» التي أخذت النصيب الأوفر من قلبه ومن أحداث الرواية.
كما هو معلوم، فإنّ فن الرواية يستأثر بمكانة خاصة لدى القارئ حيث يمكنه التماهي معها، فتكون شخصياتها ومواقفها مرآة عاكسة له وقد تساعده في الإجابة عن إشكاليات تؤرقه. لذلك، فإن جودة الرواية مرتبطة بالأساليب الفنية المعتمدة في حبكة الأحداث والشخوص لإيصال رسائل بعينها. ومن ضمن هذه التقنيات نجد الترميز حاضراً في «الحديقة المحرمة» انطلاقاً من العنوان. إذ ارتأى صاحبها أن يصف تونس بحديقة صارت محرمة على أبنائها مذ وطئت أقدام الإسلام السياسي أرضها، وفي الوقت عينه، لعبد النبي يوسف حديقة غرس فيها شجرات وكل شجرة تذكره بحبيباته وأمه وابنته.
ولا يوجد أشدّ إمتاعاً للقارئ من رواية تتجند أساليبها الفنية للتعبير عن الأحداث والشخصيات ومحاكاة واقع القارئ وإشراكه في كتابة الرواية إن صح التعبير. لذلك، فإن معز زيود عمد إلى استخدام الترميز في أسماء الشخصيات. فعبد النبي يوسف مثلاً يحيل إلى الأسماء الدينية من ناحية. من ناحية أخرى، فإنّ تمرد الشخصية البطلة يبدأ من مناداتها بنبي وفي ذلك استفزاز، خصوصاً في ظروف اتّسمت بالتطرف، والعنف الذي وجد في الفقر وتردّي الأوضاع الاجتماعية حاضنةً له، فكانت الأحياء الشعبية الأيسر ولوجاً بالنسبة لهذه التيارات من 2011 إلى 2013 سنة الاغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية لقيادات يسارية معارضة. اسم حبيبة البطل ياسمين أيضاً يحيل إلى الصفة التي حملتها الثورة «ثورة الياسمين».
حملت الأماكن رمزية في ذهن القارئ مثل «لافيات» حيث يلتقي أغلب الإعلاميين والمثقفين أو دار الصحافي وهو مشرب يجمع هؤلاء أيضاً أو من خلال أمكنة تتعلق بهوية الوطن كالمناطق الأثرية على غرار موقع «أوذنة». ولم تقف سرديات المكان عند تونس، وإنما يأخذنا زيود في أحد فصول الرواية إلى العراق، وهو في صدد وصف حب صديقه الشاعر كمال لعائشة العراقية. وقد اتخذ معز زيود منحى التجديد في الرواية الحديثة من خلال اعتماد الزمن اللاخطي في تداخل بين الذاكرة flashback في السرد وقطع تسلسل الأحداث زمنياً في أكثر من مناسبة.
ظلّت شخصية البطل الخيط الناظم الذي تتشابك حوله الأحداث وتتقاطع من خلاله الأزمات وتمتزج الضمائر والشخصيات وخواطرها وتتعدد أنماط الخطاب بين التداعي والأسلوب السردي لتنتج متعة تعبيرية تستميل القارئ نحو مرافقة البطل في خوض معترك الرواية.
عبد النبي يوسف فاض فيضاناً عارماً فنقلَ حقبة زمنية لا يحب التونسيون تذكرها لاصطباغها بالعنف والسقوط القيمي والفساد من ناحية، ومن ناحية أخرى قدم وجوهاً مختلفة لمجتمع واحد.
ويبدو تأثر الكاتب بالأقصوصة جلياً خلال فصول الكتاب وقصصه المستقلة الواحدة عن الأخرى وهو ما يفند مقولة تودوروف عن هيمنة الرواية على غيرها من الأجناس الأدبية وأهميتها لدى الكاتب نفسه «يظل الكاتب مغموراً حتّى يكتب الرواية». أما في «الحديقة المحرمة»، فكانت كل قصة تحمل عنواناً مستقلاً مثل «حباقة وفحولة» أو «الأستاذ والمومس» أو «جينز التضامن»، فيما تدور كل واحدة منها في فلك فكرة معينة.
تتميز هذه الرواية باحتوائها على قصائد تضفي مسحة فنية وايقاعاً، فيردد عبد النبي يوسف (الشخصية البطلة) على مسامع حبيبته «ياسمين» وهو يفارقها أبياتاً لدرويش «كم سنة وأنا أسميك الوداع، ولا أودع غير نفسي؟!»، أو أبياتاً شعرية أخرى لإحدى حبيباته «زبيدة الأمازيغية»: «اكسر جرارك واسقني خمر الوصال فإنني من فرط حمى للنبي صبابة قد أحترق».
من زمن مختلف ومكان مفارق تطالعنا أحداث عاشها عمر الحمزاوي لتذكرنا هذه الرواية بمسيرة «شحاذ» (1960) نجيب محفوظ الذي انطلق من تأمل لوحة حركت فيه الحيرة، فألح عليه السؤال إلى أن أعياه، فبطل «الحديقة المحرمة» عبد النبي يوسف عاش انكسارات مهنية وعاطفية ووطنية جعلته يقوض الكثير من المفاهيم والمبادئ ليعيد تشكيلها وفق مقتضيات الواقع الجديد.
تأخذنا فصول الرواية إلى تساؤلات عن معنى الحياة والتخبط في علاقة الإنسان بالحب والعائلة والأصدقاء، والوطن، والمسار المهني، والمبادئ ليجد نفسه في آخر المطاف وحيداً وحانقاً على كل ما يحول دون تحقيقه للسعادة، ونجيب محفوظ أيضاً ولج من نفس هذه البوابة، فجعل من عمر الحمزاوي شماعة علق عليها هواجسه وتطلعات ال‘نسان العربي.
ولعلّنا لا نجانب الصواب هنا إذا قلنا إن عبد النبي يوسف ليس ببعيد عن معز زيود كما لم يكن عمر الحمزاوي بعيداً عن نجيب محفوظ، فالشخصيتان وصانعاهما كانوا يعيشون نفس الظروف والتجارب، وقد حمّلا البطلين كل ما يمكن أن يحمِله الإنسان من قلق وجودي قد يتحرك فجأة ومن دون سابق إنذار من خلال أول صدمة بواقع جديد.
من خلال رواية «الحديقة المحرمة»، نحن إزاء عمل فنّيّ يضع نصب أعين القراء إشكالات ذهنيّة ويوثق لمرحلة تاريخية تغيرت إبانها السلوكات الاجتماعية في تونس، وتجلى عمق الأزمة التي خلفها التطرف لدى المثقفين أمثال عبد النبي يوسف.
صحيفة الأخبار اللبنانية