مغامرة الخيال.. عندما نذكر التراث في سياق إبداعي، يأتي معه فيما تبقى من السرديات المُعاصرة قطيعة بالضرورة، كأن فعل مواكبة المُعاصر، والكتابة ابنة اللحظة الراهنة، يلزمهما الجهر بإلقاء التراث بالكليّة وراء ظهر المرجعية في الأدب. ولأجل خلق مود مُعاصر له شعبية أكثر، يكفينا فقط الحديث عن أبوّة “سرفانتس” للرواية الحديثة، وكيف أنّها خرجت من تحت عباءة رواية “دون كيخوتة”. لكننا، وللمفاجئة، لا ننتمى بالكُليّة، إلى سرفانتس.
في كتابه الصادر حديثًا “بنات آوى والحروف المفقودة: عن الحيوانات الناطقة في لحظات الخطر” يستعيد هيثم الورداني العلاقة بالتُراث الحكائي العربي، وكيف نشأ الخيال ليضبط الصمت التاريخي باستنطاق الحقيقة، التي تستعين بمجاهيل التاريخ ومنبوذيه، وتحكي بلسانهم، لأن لسان البشر الساكن في قمّة تراتبية النوع، كان آنذاك مُلجّما بالقمع السلطوي.
بدت المُقدمة التي افتتح هيثم كتابه بها لافتة. خلال لحظة خطر عالمية، نتجت عن نقرنا لظهر الطبيعة بعصا، وهي بوحشيتها المُختبئة عاقبتنا بالوباء والانزواء في المنازل، في قلب الحدث الاستثنائي يجدُ عامل في مدينة ألمانية يد في النهر، وحينما يسألها، تُخبره أنها يد عبدالله بن المقفّع.
افتتاحية الورداني، على مستويا المُباشر والمدلول، تُشير إلى محاولة لصم قطيعة طويلة حدثت، جاءت ضرورتها من لحظة صمت بشري عالمي، مخنوق بالواقع والوباء. تتوقف العامل يده عن العمل بعدما يجدُ يد ابن المقفّع، ثم يُشير عليه صديقه أن يلصق اليد المعثور عليها باليد البليدة، وبذلك يستعيدُ العامل حيويته مؤقتًا.
في لحظة خطر، مغموسة في ثِقل الواقع والصمت، يأتي المجاز من المجهول ليُعيد الحياة.
نشوء الخيال ومراوغة السياسة
كُتبت كليلة ودمنة بالهندية، حينما طلب الملك الهندي “دبشليم” من حكيمه أن يؤلّف له خلاصة الحكمة بأسلوب مسلٍ. تدور الحكاية حول السلطة وصراعاتها وإمكانيات الانتفاع منها، وإلى مقاومتها بالعقل. اختلف الحيوانان ابن آوى، كليلة ودمنة، حول مجاورة الأسد ملك المنطقة، والبقاء بعيدًا عن خطره. الأول من أبناء آوى، رأى بأن في مجاورة الأسد هلاك لهما، ولا سبيل لوجودهما في الحياة سوى الوقوف على باب الأسود، بينما رأى الآخر، أن عليهما التطلّع والخروج عن حيّز وجودهما المحدود.
خلال جدل كليلة ودمنة، يسرد الأخوان حكايات لها طابع توعوي وحكيم، أبطالها حيوانات أيضًا، تخضع لأسلوب “المُثل” في التراث العربي، إذ لم يكن ميلاد الخيال قد تجاوز الحكمة الضرورية في المُنجز الشِعري.
يربط هيثم الورداني بين ظهور القصة الخيالية في التراث العربي، كنموذج لنشأة الخيال من خلال الترجمة، وبين الوضع السياسي الراهن وقتها. قام عبدالله بن المقفّع بترجمة كليلة ودمنة إلى العربية، وهو من أصل فارسي، ولد في البصرة بالعراق، خلال أواخر الدولة الأموية التي كانت تنبذ العجم، وخلال أوائل العصر العبّاسي، ظهر نموذج آخر من القمع السلطوي، على مستوى سيادة اللغة العربية، والتحاكُم الديني، خلال ذلك كان ابن المقفّع، بحكم ثرائه المعرفي، يعملُ كاتبًا لأحد أعمام أبي جعفر المنصور، الذي انقلب على أعمامه وانفرد بالسلطة بعد تولّيه خلفًا لأبي العبّاس.
هناك ربط منطقي بين ترجمة ابن المقفّع لكليلة ودمنة، وبين الاحتدام السياسي الذي عاصره، إذ يتناول هيثم فعل الترجمة في هذه الحالة، على أنّه نشاط للتعبير عن “القلق”، أو إحالة اللغة غير المفهومة إلى أخرى مفهومة، من خلال التأويل. لا يتوقف نشاط الترجمة في هذه الحالة عند النقل، لأن الأمر بشكل مركزي يعود إلى فكرة أكثر أوليّة، وهي اللحظة المُناسبة التي يتدخّل فيها الخيال لضبط التاريخ.
الصراع في كليلة ودمنة، خلال قراءة سياسية، يتمثل في جدال بين طرفين مركزيين، يشكله طرف مُستضعف “الحيوان”، وصاحب السُلطة “الأسد”، وما بينهما تتشكّل التجربة البشرية. ترجم ابن المقفّع الحكاية خلال ذروة صراع سياسي، عاصره من الداخل بحكم عمله الكِتابي، ولأن ذروة السلطة آنذاك، كانت حاكمة، درجة أنها تمنعُ التفوّه بكلمة واحدة، محكيّة أو مكتوبة، خارج السياق، فإن الخيال يحضر هنا كملاذ آمن، يُحقق القدرة على المُقاومة السياسية.
من هنا، يُشير هيثم، إلى أن الخيال عند نشوئه، مثّل وجه آخر للحقيقة، لا ينفصل عنها، لكنه يراوغها للهروب من تبعات الدخول فيما يحظره الحراك السلطوي. يأتي الأمر مثل نداء تاريخي، واجب ولا بديل عنه، كي تُكمل اللحظة التاريخية تشكّلها بالرأي الآخر، والذي يكون في الغالب مقموعًا.
حتى مع الحذر، والاختباء وراء الخيال، لم يسلم ابن المقفّع من سندان السلطة، إذ يذكر طه حسين في كتاب “من حديث الشعر والنثر” أن ابن المقفّع قُتل اتهامًا “بالزندقة”، على يد أبي جعفر المنصور. كان اتهام الزندقة دارجا آنذاك ، يُمكن أن يطال كل من يخرج عن عباءة السلطان، غير أن ابن المقفّع من أصل فارسي، وقد أسلم بعد ذلك، وكان إسلام العجم لا يعفيهم من احتمالات القتل، حتى بعد إسلامهم.
إذًا، نشأ الخيال العربي خلال لحظة فارقة، وهو مقاومة السلطة ومراوغتها، وتأتّى ذلك من ضرورة استدعاها التاريخ. كي يكتمل فعل “المراوغة”، من يُمكن أن يكونَ بديلًا؟ من اللسان الذي يُمكنه تفعيلُ الخيال؟ بدلًا من الإنسان صاحب التوثيق والحكي المُباشر؟
عواء له صدى
يشغلُ حيوان “ابن آوى” ذيل ترتيب مقام الحيوانات وحضورهم التاريخي، فهي – بنات آوى- فصيلة من آكلة “الجيف – جثث الحيوانات النتنة” تسير وراء خُطى الأسود والسباع، تأكل ما يتبقى من فرائسها. لا يكثر عويل ابن آوى إلا في الليل، حينما ينام البشر والحيوان وتستكين الطبيعة.
يأتي حيوان ابن آوى من مساحة انزواء أبعد من ذلك، ففي “لسان العرب” تُعرف كلمة “حيوان” في أحد معانيها، أنها الحياة المُجرّدة من البداية والنهاية، التي لا تحمل سوى التكرار. الحيوان هنا مُتجاوز لاسم وظيفي لصنف حي، هو طريقة تمنحها اللغة للنزع من التاريخ.
تُحيلنا الإشارة اللغوية إلى فهم موقع الحيوان، حينما يتم دفعه إلى هامش التاريخ، فهو لا يقع خارجه، بل في قلب الهامش، وبذلك يظل نشاطه مُعلّقا بين ممارسة دور المقصيّ، وبين “الميتة المؤقتة” كي يعود، ليحضر في لحظات الخطر.
إذًا، كيف تبدوا لنا لحظة الخطر؟ وكيف يُنتجها التاريخ؟ يشير هيثم في كتابه، إلى أن هذه هي لحظة إنتاج “الخرافة”، التي تكون لقاء تاريخيا مع الحيوان، ذلك الحي الميت الذي يحضر حينما تتعاظم الحاجة إلى إيجاد مخرج من أبدية الوضع الراهن.
الحيّز الذي تُتيح فيه الخرافة للعجماوات أن تتكلم، هو ميلاد جديد للغة، ولمن يتحدث بها أيضًا، حتى للمفردات نفسها التي تختبر قدرتها على كشف التاريخ، بالقفز والوثب الحيواني المرح، وبعوائها المُخيف والمُحذّر، وبالتالي يستحيل موت قطب من الحقيقة، إلى حياة جديدة، هو ذاته إعادة حياة الحيوان مرة أخرى، لينطق، وعلى مستوى التأثير، تكون القراءة الجديدة للتاريخ خلّاقة، لأنها تحيا من خلال مراوغة السلطة، القُطب الأكبر الحاكم في إباحة الحكي، وكذلك في منعه.
حينما نستعيدُ “كليلة ودمنة” في هذا السياق، ونضع مُقاربات السلطة بين بنات آوى والأسد، نرى أن المشهد المؤسس للخرافة هو ذلك اللقاء، كما يشيرُ هيثم، بين صاحب المعرفة وصاحب السلطة. ولأن تبادل المناوشات بين الطرفين هنا لا يُمكن أن يؤول إلى نهاية، فإن هذه المناوشات تحتملُ داخل إجاباتها أسئلة مُفخخّة، حتى يظل التاريخ وحضور الخيال فيه باقيين، ببقاء ذلك الصراع.
إن لحظة الخطر، في ميلاد الخيال بلسان مُغاير، تمتدُ في أكثر من سياق بعد ذلك، ففي تصديره لنسخة دار المعارف من حكاية “كليلة ودمنة”، يُشير طه حسين إلى ظهور الحكاية في أيام صعبة – الحرب العالمية الثانية -، بسبب الحرب وآثامها، حيث ريح الموت والحزن العميق الذي لا يُعرف له أول ولا آخر.
عند هنا، يتبقى لدينا سؤال أخير، وهو كيفية قراءتنا للعالم المُعاصر، من خلال الخيال، في لحظات الخطر، ومتى استبدلنا اللسان البشري بلسان آخر؟
نظرة على المُعاصر
خلال فترة زمنية واسعة، يُمكن أن نقرّبها بالمسافة بين نشوء المخيال في التراث العربي، والصورة المُعاصرة للخيال عالميًا، نرى أنه خاض رحلة ثريّة، تشكّلت خلالها أنساق كُبرى، نظرّت له، وخضع لمركزية المفهوم السياسي الذي بدأ من مراوغته، تمثّل ذلك الخضوع للمركزية الأوروبية ثم المُنتج السينمائي الأميركي لصورة البطل الخارق super hero . فالأنساق التي مرّ الخيال خلالها، عند ضرورة مواكبة المُعاصر، كُسرت، وكان لا بد للبطل المُنهزم أن يعود مرّة أخرى، لأنه لصيق التجربة البشرية، ولأن حيوان ابن آوى، كان عليه أن يعود، من أسفل التراتبية، حتى وإن عاد في صور أخرى.
في الأدب، حكى الكلب في رواية “نداء البراري” لجاك لندن، عن مُختلف الولايات الأميركية مطلع القرن العشرين، الكائن نفسه تسلّم راية إعادة انتاج التاريخ، ما بين الهزل والجد، في “الشطّار” لخيري شلبي. في سياق آخر، خاض نفس الحيوان عالم البشر وقراءة تركيباته الشعورية، بما ينطوي عليها من خيبة وحب وقلق وخوف، في رواية “تمبكتو” لبول أوستر.
كان للسينما نصيب كبير من إعادة إنتاج الصوت المُغاير في لحظة الخطر، حتى ولو من خلال لمحة لها أساس واقعي. في فيلم “the elephant man”، يُعيد المُخرج ديفيد لينش حكاية لها بعد تاريخ. وُلد جوزيف ميرك في منتصف القرن التاسع عشر بوجه مُشوّه، وقيل إن والدته نظرت إلى فيل وهي حامل به، فجاء ولدها بوجه يُشبه الفيل.
في فيلم لينش، المسألة لا تخرج عن سيادة السلطة، جوزيف يخوض رحلة لأجل “الاعتراف” بكونه إنسانا أمام السلطة البشرية الحاكمة، والمحكومة بصورة أكثر عمقًا بأنماط الجمالي والمقبول. كان صراع جوزيف هو أن يكون “مرئيًا” فقط، وخلال هذه المُحاولة تكوّنت حكايته.
يظل الرمز السينمائي الأكثر اشتباكًا مع فكرة المقال، هو فيلم “eo” الذي صدر العام الماضي، وجاء تأثّرًا بأحد كلاسيكيات روبير بريسون “Au Hasard Balthazar” الذي كان الحمار أحد مواده المركزية.
في فيلم “eo”، يتلاشى صراع السلطة بصورته التاريخية “طرفان والحكاية تُنتج بين نزاعهما”، وتفرد اللحظة الراهنة – بما تشمله من خيبة بشرية كُبرى تحت وطأة مفاهيم الاغتراب وآليات تفعيل الحداثة وما بعدها ومجتمعات الاستهلاك – صورة ودودة، وحزينة بشكل كتيم، لعجز الجنس البشري عن مُحاكاة أفكار كونية، يُخبرنا التاريخ أنها لا تسقط بالتقادم، وربما هي مادة البقاء الأطول لاحقًا.
خلال انتقاله لعدّة ملكيّات، وما بينهما يخوض رحلته الذاتية، يمرُ الحمار “إيو” على عالم القُرى والمُدن، يختبر مشاعر توهمنا أنّها حكر على البشر، أو تحديدًا، لدى البشر وحدهم أساليب “صورية”، يُمكن استيعابها، للتعبير عنها. يُشارك المشاهد حمارًا، لديه همّ، حزين أحيانًا، وأحيانا أخرى مُبتهج، حتى تنتهي رحلته إلى مسار سُلطوي آخر، تضبطه سياسات العالم المُعاصر.
لا ينتفي حضور السُلطة، حتى في الانتقال إلي مُحاكاة سينمائية مثل فيلم “eo”، لمُعايشة تجربة بشرية بعين حمار. الإنسان المُعاصر حاليًا يقع في نفس مفرمة الصراع مع نموذج للسلطة، يسلبه حُرية الاحتماء بالجماعة، حُريّة البطء، وحريّة العيش الكريم، ومُتضّمن في دواخل كل ذلك، حُريّة الاشتباك الشعوري مع الوجود أيضًا.
تظلُ العلاقة مع التراث العربي، ونشوء الخيال فيه، قائمة حتى لو أجبرتنا حوكمة الترويج واستباق القيمة بالقطيعة معه، لأننا، في إطار مجازي، وما يُنتج من خلال البشر أدبيًا أو سينمائيًا، هو ابن للمجاز العربي ولو على مستوى أوّلي، حتى ولو على مستوى النبتة الأولى فقط، بينما بطولة دون كيخوتة وصراعه – الذي له شكل سياسي أيضًا – حققت نصف الأبوّة الحكائية.
عودة إلى هيثم الورداني في كتابه، هناك فقرة تشملُ عدّة ثنائيات، تبدوا مُناسبة كنهاية لأطروحته، وكبداية، ممتدة، لقدرتنا على الحكي خلال الوسائط المُعاصرة وإعادة انتاج الخيال ومجازاته “كلام من لا لسان لهم هو دائمًا حدث جلل، يؤذن بنهاية زمن وبداية آخر. يعم الخراب، فتنطق الدابة، يحيك البشر المكائد فتنطق العجماوات. يزداد البطش، وتسيل الدماء، فتنطق الحيوانات. يخرس البشر، فينطق الحجر. يظلم الحاكم، فيجيبه الحكيم بخرافة. هذه لحظة خطر مرعبة، تتطلّب كثيرًا من الحكمة والحيلة، ومن ينطق فيها عليه الحذر”.