مفارقات المشهد الأدبي الراهن في روسيا
كانت الدعاية السوفيتية لا تمل من تكرار مقولة مفادها، ان الشعب السوفيتي يتصدّر قائمة الشعوب القارئة في العالم، في حين إننا نعلم أن معدل القراءة في الولايات المتحدة الأميركية وانجلترا وفرنسا واسبانيا وألمانيا وايطاليا كان أعلى من الإتحاد السوفيتي قبل انهياره ومن روسيا حالياً.
ولكن يمكن القول ان الشعب الروسي – وليس السوفيتي – كان أكثر الشعوب القارئة للأدب الجاد واهتماماً بالثقافة العالية والفنون الجميلة. وربما كانت ندرة أدب التسلية والخيارات الترفيهية الأخرى أحد أسباب هذا الاهتمام، ولكن ليس السبب الرئيسي بأي حال من الأحوال.
كان الأدب الرفيع دائماً أحد أهم روافد تكوين الشخصية الروسية، والأدباء العمالقة من شعراء وكتّاب كانوا معلمي الشعب، ويلعبون دوراً كبيراً في تشكيل القيم الروحية والفنية والجمالية للجمهور القاريء. وهذا الدور هو الذي دفع الشاعر يفغيني يفتوشينكو الى القول ان “الشاعر في روسيا أكثر من شاعر”. وهو عنوان قصيدة شهيرة له ذهب مثلاً يتناقله الأدباء والمثقفون الروس كثيراً. ويمكن القول إن الكاتب في روسيا كان أيضاً أكثر من كاتب.
لقد اتيح لي أن أعايش ذلك عن قرب عندما كنت طالباً في موسكو في الستينيات من القرن الماضي. كانت قيمة أي شخص تقاس الى حد كبير وخاصة عند الجنس اللطيف بمدى عمق ثقافته العامة واطلاعه على روائع الآداب والفنون الروسية والأجنبية، وكان من الصعب نيل إعجاب أي فتاة أو سيدة اذا لم يكن المرء مطلعا على النماذج الرفيعة للآداب والفنون.
وتحضرني في هذا السيلق طرفة حقيقية بطلها زميل عراقي كان يواصل دراسته في موسكو. فقد سمع هذا الزميل أن أفضل طريقة لكسب إعجاب الفتيات الروسيات هي ان تحدثهن عن انهماكك في قراءة الروائع الأدبية ومناقشة مضامينها معهن.
تفاخر زميلنا امام صديقته الجديدة بأنه يعكف الآن على قراءة رواية “آنّا كارينينا” لليف تولستوي. والمعروف أن الكاتب العظيم استهل هذه الرواية بالفقرة الشهيرة التالية: “كل الأسر السعيدة تتشابه، ولكن كل أسرة شقية فريدة في شقائها”. وبطبيعة الحال فإن الفتاة كانت قد قرأت هذه الرواية الرائعة، ربما أكثر من مرة، لأنها (الرواية) كانت ضمن مادة “الأدب” في المرحلة الثانوية. قالت الفتاة على أمل أن تعرف انطباع الطالب الأجنبي عن رائعة تولستوي:
“كل الأسر السعيدة تتشابه، ولكن كل أسرة شقية فريدة في شقائها”.
قال الطالب العراقي:
– لم أصل بعد الى هذه الصفحة!
نظرت الفتاة اليه في دهشة وارتياب وتركته الى غير رجعة.
وقد اتسع نطاق الاهتمام بالأدب الجاد في الحقبة السوفيتية ليشمل الملايين من العمال والفلاحين الذين تعلموا القراءة والكتابة بعد فرض التعليم الألزامي.
ولكن النظام الشمولي كان يقمع المبادرات الشخصية، وكان الادب عموما والمحظور منه خصوصاً بديلاً عن المعارضة السياسية الى حد كبير، ويشكل عالما موازياً من الخيال أكثر رحابة، يستمتع القاري بالتجوال فيه ونسيان ما يعانيه من ضغوط نفسية وقمع للحريات الشخصية.
وكان كل شخص شغوف بالقراءة يتابع الإصدارات الثقافية الجديدة، ويحاول بشتى السبل الحصول على نسخة من أي كتاب قيّم روسي أو أجنبي محظور، ويلجأ أحياناً الى شراء الكتاب من السوق السوداء بأضعاف ثمنه الرسمي. فعلى سبيل المثال كانت نتاجات “فرانز كافكا” محظورة تماماً وغائبة عن الساحة الثقافية الروسية حتى سنة 1965 حين صدر مجلد يضم مختارات من رواياته وقصصه القصيرة المترجمة الى اللغة الروسية.
وقد شاع خبر صدور الكتاب في موسكو بسرعة البرق. وفي اليوم المقرر لعرض الكتاب للبيع، اصطف منذ الصباح الباكر طابور طويل من الراغبين في اقتناء نسخة منه أمام كل متجر للكتب في موسكو.
كان سعر الكتاب حوالي روبلين، وقد نفدت عشرات الألوف من النسخ خلال بضع ساعات. ومن حسن الحظ أنني استطعت الحصول على نسخة منه بسهولة وان كان بثمن باهظ.
كنت أعرف فتاة تعمل بائعة في “بيت الكتب” وهو اسم أهم وأكبر متجر للكتب في وسط موسكو، وكانت هي وسيلتي الرئيسية للحصول على الكتب الجديدة لأهم الكتاب والشعراء الروس والأجانب.
قالت الفتاة إنها تستطيع الحصول على نسخة من كتاب كافكا بعشرين روبلاً، إذا كنتُ راغباً في ذلك. دفعت الروبلات العشرين وأنا سعيد وممتن للفتاة، واليوم كلما ممدت يدي الى هذا المجلد في مكتبتي الشخصية تذكرت على الفور (صديقتي) الجميلة بائعة الكتب في قلب موسكو.
• الرقابة الأيديولوجية والتحدي للمحظور
الرقابة الأيديولوجية المتزمتة على المطبوعات كانت – ويا للمفارقة – تشكل الذائقة الأدبية لملايين القراء في روسيا، وتقدم خدمة مجانية لمؤلف أي كتاب تقوم بمنعه من النشر. فيلجأ صاحبه الى نشره في احدى الدول الغربية، مما يؤدي الى حظر تداوله في روسيا وتوبيخ الكاتب، وربما زجه في إحدى المصحات العقلية أو النفسية أو طرده من البلاد، وإسقاط الجنسية السوفيتية عنه. وفي الوقت نفسه كان هذا الحظر أفضل دعاية مجانية لكتابه. كانت النسخ المتسربة من الكتاب الى داخل البلاد تعاد طباعته على الآلات الكاتبة اليدوية أو تستنسخ سراً بوسائل بدائية حسب تقنيات الاستنساخ في تلك الفترة، كنوع من التحدي للمحظور، وتنتشر انتشار النار في الهشيم. لأن القراء كانوا يعتقدون أن الكتاب المحظور لا بد أن يكون جيدا أو مثيرا في الأقل. وكانت النسخة الواحدة تنتقل من يد الى يد بين عشاق القراءة حتى تبلى تماما.
• الأدب والصدمات الأقتصادية
في زمن التحولات السياسية العاصفة، والفترات الإنتقالية المضطربة تتوحش المجتمعات، وينعكس ذلك بشكل كارثي على حال الثقافة والأدب ومدى الأقبال على القراءة، حيث يعزف الناس – ما عدا قلة من المحترفين – عن قراءة الأعمال الأدبية، ويصبح الأمن والخبز الشغل الشاغل للغالبية العظمى منهم وليس شراء وقراءة الكتب . وهذه حقيقة صارخة تتجلى بأوضح صورها في كل بلد تعرّض الى تغيرات دراماتيكية في انتقال السلطة أو أزمات اقتصادية خانقة، وروسيا ليست استثناءً من هذه القاعدة.
بعد تفكك الإتحاد السوفيتي شهدت روسيا في مطلع التسعينيات العصيبة ضائقة اقتصادية خانقة، وانخفاضاً في مستوى معيشة عموم المواطنين، ما عدا فئة قليلة من الأثرياء الجدد، الذين تفننوا في الأستيلاء على ثروات البلاد وممتلكات الدولة باسم الخصخصة. كان هذا في عهد يلتسن، الذي شهد تجربة العديد من الصدمات الاقتصادية الفاشلة، والإتجاه نحو اقتصاد السوق، وفي الوقت نفسه كان زمن اطلاق حرية التعبير الى حد كبير، وإلغاء الرقابة الأيديولوجية على المطبوعات، وإلغاء دور النشر الحكومية ، وتأسيس دور نشر خاصة، وقد تحولت هذه الدور بمضي الزمن الى مؤسسات لا يقتصر عملها على نشر الكتب وتوزيعها فقط ، بل الترويج على نطاق واسع لمنشوراتها عبر وسائل الأعلام، والأنشطة (الثقافية).
الأسعار المرتفعة لإصدارات تلك الدور في ظروف الأزمة الإقتصادية أدى الى تدني معدل القراءة. وتشير الاستبيانات الحديثة الى أن 40% من الروس لا يقرؤون الكتب قط، و50% منهم لا يشترونها، و34% منهم ليس في بيوتهم ولو كتاب واحد، و80% من المواطنين لا يقرؤون الصحف والمجلات الورقية. ويفضل الجيل الجديد القراءة الخفيفة والسريعة على صفحات مواقع التواصل الأجتماعي. وفي كل عام يتقلص عدد متاجر الكتب في موسكو والمدن الأخرى وما تبقى منها تقوم ببيع اللوحات الفنية والهدايا والقرطاسية الى جانب الكتب، التي ما زالت تشغل مساحة كبيرة فيها بطبيعة الحال، وأحياناً نجد أن جزءا من المتجر قد تحول الى مقهى مزود بخدمات (الواي فاي).
• الأدب الأستهلاكي
عندما يزور المرء اليوم متاجر الكتب الرئيسية في موسكو سيرى صفوفا طويلة منتظمة من الكتب الجديدة على الرفوف، مما يوحي – لأول وهلة – بغزارة الإنتاج الفكري والأدبي، وخاصة الروايات – ذات الأغلفة الملونة اللامعة، والعناوين الجذابة – التي تحمل صور حسناوات في أوضاع مثيرة، ومصاصي دماء، ورجال عصابات يطلقون النار. أغلفة وعناوين لا تعكس في أغلب الأحيان مضامين تلك الروايات الرديئة، التي لا علاقة لها بالأدب الحقيقي بأي شكل من الأشكال. فهي تضم بين دفاتها قصصاً ملفقة عن (بطولات) عصابات الجريمة المنظمة، أو مغامرات بوليسية أو جاسوسية أو حكايات ايروتيكية عن مغامرات نسائية في المنتجعات الصيفية.
كتابات تهدف الى إثارة الفضول والدهشة بلغة سوقية متدنية. وتتضمن الكثير منها وصفاً لشتى أنواع العنف والشذوذ الجنسي والإنحراف السلوكي والإختلال النفسي والعقلي، وشتى أشكال الغرائبية الفجة، البعيدة كل البعد عن الواقعية السحرية لأدب بلدان أميركا اللاتينية. ومعظم ما تنشره دور النشر والإشهار الروسية اليوم هو من هذا النوع السطحي من الأدب الاستهلاكي. والمشكلة لا تكمن في وجود مثل هذا النوع من الأدب، فقد كان موجوداً طوال تأريخ الأدب، وهو موجود اليوم في كل أنحاء العالم، بل ويتصدر المبيعات، وخاصة الروايات الشعبية (البوب أرت) التي يقبل عليها الناس لتمضية الوقت في صالات الإنتظار، وفي عربات السكك الحديد، وعلى شواطيء البحر، ثم يرمونها في سلة المهملات.
وفي العادة لا يهتم النقاد كثيراً بهذا النوع من الأدب، رغم رواجه، بل يتركز اهتمامهم على الأدب الجاد. ولكل من هذين النوعين جمهوره. أما في روسيا فلا يوجد ما يقابل طوفان الأدب الرخيص، فقد أخذ كل من هب ودب يؤلف القصص والروايات الهابطة كأسهل طريقة للحصول على المال. ونظراً لقلة الإقبال على القراءة فقد انخفض عدد النسخ المطبوعة من كل كتاب، بحيث لا يتجاوز عدة آلاف نسخة.
وتدفع دور النشر الى المؤلف مكافأة متواضعة تبلغ حوالي (1000) دولار عن رواية من مائة الف كلمة مثلاً. لذا يضطر المؤلف الاستهلاكي الى كتابة رواية كل شهر أو شهرين لسد نفقات معيشته وكثيرا ما يشتغل في مهن أخرى لا علاقة لها بالأدب. ما عدا شلة من نجوم الأدب الهابط الذين تتبناهم دور النشر والإشهار التجارية الكبرى، وتحولهم بفعل فنون الترويج والتسويق والتواصل الى ماركات رائجة في السوق.
• جناية دور النشر على الأدب
أشهر كتاب الرواية في الأدب الروسي اليوم هم من صنع دور النشر الكبرى، التي يهيمن خبراؤها على لجان التحكيم للجوائز الأدبية، وتعمل ليل نهار حملات دعائية واسعة النطاق، وعبر كل السبل لعدد قليل من الروائيين الإستهلاكيين والإحتفاء بهم، ونشر المقالات (النقدية) المدفوعة الثمن عن أعمالهم، واجراء المقابلات الصحفية معهم.
وقد اتقن هؤلاء (الكتّاب) أنفسهم لعبة (صنع كاتب شهير) كماركة تسويقية رائجة، فأخذوا يشاركون في االإحتفالات والمهرجانات بإلقاء كلمات أمام عدسات وسائل الإعلام، ويلتقون بالجمهور القاريء في القاعات والنوادي وحفلات توقيع الكتب الجديدة، وتقوم متاجر الكتب بوضع صورهم في واجهاتها، كل هذا الجهد الدعائي الهائل يهدف الى تضليل المتلقي، والإيحاء له بأن هذا النوع من الأدب الرديء هو الأدب الحقيقي. فالميديا بشتى وسائلها الفعالة والمغرية هي سيدة الموقف، تصنع الكتّاب المشهورين وتقدمهم طعما للقاريء الساذج. والروس أناس طيبون يثقون بالدعاية التجارية المغلفة بمهارة.
ويلعب التلفزيون الروسي دوراً ممائلاً أو مكملاً لدور دور النشر والإشهار، فقد أصبحت قنواته العديدة ميدانا يصول ويجول فيه نجوم الأدب الأستهلاكي والنقاد المنافقون، الذين تستضيفهم تلك القنوات ليتحدثوا عن أشياء (مثيرة): كيف يمضون أوقاتهم، وماذا يأكلون ويشربون، وأي الأزياء – من الماركات العالمية يرتدون. وكيف أن الحياة حلوة في المجتمع الإستهلاكي. أما الذي لا يستطيع السكوت ويقول الحقيقة فلا فرصة أمامه للظهور في التلفزيون.
• التقد الأرتزاقي
من يطلع على مقالات (النقاد) الروس العاملين في خدمة دور النشر والإشهار، ربما يتساءل بينه وبين نفسه: أيهما أسوأ الأدب الروسي الاستهلاكي أم النقد الإرتزاقي المصاحب له ؟
يفتقر المشهد الأدبي الروسي اليوم الى النقد الأدبي الحقيقي الذي خلق ليواكب الإبداع، فهناك عدد كبير من تجار النقد الدعائي، الذين يقومون بتدبيج مقالات في مديح فئة من الكتّاب المزيفين وتلميع صورهم بتكليف من تلك الدور. ليس في مقالات هؤلاء (النقاد) لا عرض لمحتوى العمل الأدبي، ولا تحليل لمضمونه وأسلوبه، ولا تقييم لجوانبه الإيجابية والسلبية، بل كليشيهات مستهلكة من قبيل: “رواية رائعة” و”كاتب عبقري” و”أسلوب جديد” وما الى ذلك من العبارات الجاهزة، التي فقدت معناها الحقيقي في مثل هذه المقالات.
ولا يوجد في روسيا اليوم سوى قلة نادرة من النقاد الذين يقومون بعرض موضوعي للإصدارات الجديدة. وتحليل مضامينها، وأساليب كتابتها. وهو نقد بنّاء يساعد القاريء في اختيار ما يستحق القراءة، في هذا البحر المتلاطم من الأدب الرديء.
ومثل هذا النقد البنّاء، رغم ندرته يلقى ترحيباً من الجمهور القاريء الواعي الذي يميز بين الأدب الجاد والأدب الاستهلاكي، ولكن أصوات النقاد الحقيقيين الهادئة تضيع بين ضجة الأصوات الصاخبة – للنقاد المزيفين، والكتبة الاستهلاكيين أنفسهم – التي توهم القاريء بإن هؤلاء الكتبة، هم الذين يمثلون الموجة الجديدة (المبدعة) في الأدب الروسي المعاصر.
ولكن من هم أبرز ممثلي الموجة المزعومة؟
إنهم مجموعة صغيرة لا يتجاوز عديدها عدد أصابع اليدين بين حوالي 750 روائيا وقاصا ينتجون الأدب الاستهلاكي. هؤلاء الكتبة المحظوظون يحملون أسماء غير روسية (بريليبين، بيليفين، أكونين، وغيرهم) من الطارئين على الأدب، وهم يتفاخرون أنهم لا يقرؤون الأدب الكلاسيكي، بزعم انتهاء صلاحيته، بل انهم لا يمتلكون ناصية اللغة التي يكتبون بها، ولهذا تجد أن نتاجاتهم زاخرة بالأخطاء المضحكة – التي لا يرتكبها حتى تلميذ في المرحلة الإعدادية. من قبيل: “انفصل عن زوجته، وأخذ يتعشى على معاش أمه” أو “أفرز الفلاح العرق بأعداد لا حصر لها” هذا ما كتبه “زخار بريليبين” أحد أشهر الكتاب الاستهلاكيين في روايته المعروفة “سانكا”. ويزعم النقد المزيف أن نتاجات هذا الكاتب تعكس “فوضى الواقع” في حين انها لا تتعدى فوضى الكتابة كيفما أتفق.
هناك كاتب آخر أكثر مهارة من بريليبين اسمه فلاديمير سوروكين ولا يقل شهرة عن زميله صاحب “إفراز العرق بأعداد لا حصر لها”.
سوروكين يشكل رواياته من مشاهد متنافرة ومتناقضة، ويستخدم قاموساً متدنياً لفظياً ومعنوياً يتضمن أحط الألفاظ والنعوت والشتائم، وعلى نحو لا يختلف كثيراً عن الكتابات التي يدونها المراهقون على حيطان دورات المياه العامة. وهو مهتم فقط بالنصف السفلي من جسم الإنسان ولا علاقة له بالنصف العلوي أي بالعقل والقلب والعاطفة.
ثمة مثل روماني قديم يقول إن الورق يتحمل كل شيء، ولكن مهما حاولت أن أنقل هنا مقاطع من كتابات سوروكين، كأمثلة على انحداره الشائن، وخوائه وضحالة فكره، فإن قلمي لا يطاوعني. لأن كتاباته البورنوغرافية البذيئة تفوح منها رائحة نتنة ومقززة تثير الغثيان. أما بقية الشلة من نجوم الأدب الرديء فهم لا يختلفون كثيراً عن بريليبين وسوروكين.
• أوجه الأختلاف بين الأدب الحقيقي والأدب المزيف
الكاتب الحقيقي يخلق عالمه الخاص، والأدب الحقيقي يستمد قيمته من جماليته وتعبيره عن عوالم الأعماق، وكونه شهادة إنسانية عابرة للزمان والمكان، ففي أساس كل أدب حقيقي هناك سعي لفهم الحياة وإدراك قضايا الوجود الإنساني وإيجاد الشكل الملائم لإيصال ذلك الى الجمهور القاريء. أما أساس الأدب الاستهلاكي فهو إنتاج سلعة قابلة للبيع والتسويق.
وثمة فرق جوهري آخر بين هذين النوعين من الأدب يكمن في اختلاف الدافع للكتابة، الذي يحدد علاقة المؤلف بالجمهور القاريء. الكاتب الحقيقي صادق مع نفسه ومع الجمهور القاريء. ويقول الحقيقة دائماً ويصطدم بالسلطة أحياناً.
يزعم أصحاب دور النشر والإشهار الروسية أن الأدب الجاد لا يلقى رواجاً تجاريا، وهذا ادعاء باطل، لأن ثمة العديد من الكتاب الروس المشهورين لمعت اسماؤهم بعد نشر نتاجاتهم في الغرب وترجمتها الى عدد من اللغات الحية في العالم.
إن الدافع الأساسي لتغليب الأدب الهابط واكتساحه للمشهد الأدبي الروسي هو تخدير وعي الجماهير، وإلهاء الناس عن همومهم الحياتية، وزرع الأنانية في النفوس وتحويل المجتمع الروسي إلى مجتمع مادي استهلاكي، لا يعنى كثيراً بالقيم الإنسانية والأخلاقية والجمالية.
الأصوات العالية اليوم في الساحة الأدبية الروسية، ليست أصوات الكتاب المجيدين الذين لديهم ما يقولونه، بل أصوات من تتاح لهم فرصة القول. ولهذا السبب تحديدا، فإن الأدب الأستهلاكي الروسي أشبه بأرشيف مستشفى للأمراض العقلية، على حد وصف كاتبة وناقدة روسية معروفة هي سفتلانا زامليلوفا.
الأدب الروسي الحقيقي المعاصر يقبع الآن في السراديب والأقبية، أو ينشر في الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة. ولا يمكن القول أبداً، ان ليس ثمة أدب حقيقي أو أدباء كبار في روسيا اليوم، فثمة العشرات منهم، لكنهم وحيدون ومعزولون ومغيبون، ليس اختياراً، بل بفعل سياسة دور النشر الإحتكارية، التي لا تهتم سوى بنجوم أدب التسلية، ولكن تلك مسألة وقت فقط، فروسيا زاخرة كالعادة باصحاب المواهب الأدبية الكبيرة الذين يحترمون ذواتهم ويربأون بأنفسهم عن مجاراة دور النشر التجارية وتقديم مواضيع محل الطلب. ويعملون بكل جد لخلق أعمال أدبية جديرة بالتأريخ المجيد للأدب الروسي العظيم.
ميدل ايست أونلاين