مقاهي الشام التي تبدّلت حواسها
صوتُ فيروز يطيّر الأشرعة المعدّة للإبحار فوق طاولاتٍ متناثرة تعدّها المقاهي ليجتمع حولها البشر. جيلان من الشباب، ولم يتغيّر الصوت، لم يُنقص الزمن من عذوبته. ما زال بمقدوره تلقين مراكب الصباح حصّةً مدرسيّة في الإبحار الباكر مع القهوة أو بدونها. مع فيلمون وهبي، أو بدونه.
مقتنياتُ الأجسادِ التي ترتاد المقاهي من أعضائها لم تتغيّر. وجوهٌ مقصوصةٌ بعناية أكثر من اللازم. أقلّ من اللازم. بملامحٍ مشوشة، أو بملامحٍ مرتاحة. مع عيونٍ هي الأخرى لم تتغيّر لتتلامس كلّما التقت كأنها ماءٌ ملوّن، فتتمدد، أو تتقاعس لتقللَ من النتوءات الحادة للحديث أو تزيدها. حولَها يتحرك دخانُ السجائر، هو الآخر لم يتغيّر. بمقدوره الالتصاق بأصابع اليدّ مهما قلّت كثافته في الهواء، أو زادت.
ووصفة الانتظار هي الأخرى لم تتغيّر، هناك دوماً من ينتظر، فتاةٌ عشرينيّة شعرها الداكن يسيلُ فوق كتفيها، وعلى ظهرها تنتظر حبيبها الذي بدأ قلبهُ يجفّ، لا تعاينُ الوقت وهو يمرّ، ولن تسأله حين يأتي لم تأخر. شابٌ هزيلُ البنية تسيلُ لحيتهُ الداكنة فوق وجهه، ينتظرُ حبيبته التي لم تَعُدْ تَألَفُهُ كما السابق، يتفادى قياسَ الوقت، ولن يسألها حين تحضر عن سبب تأخرها. شابٌ وفتاةٌ ينتظران أصدقائهما ظهيرةَ يومِ جمعة، فيحضرون تباعاً، ولا يسألُ أحدهم الآخر عن سبب تأخّرهِ. طاولةٌ طازجةٌ منذ الصباح تنتظر عاشقين متشابكي الأيدي تُدخِلهما الصدفة وحدها في مدارِ المقهى. لكن ما الذي تغيّر؟!
مواعيد ما قبل الخلوي
لم يعد المقهى كأنه لُقيةٌ نقتادُ إليه من نحب، لم يعد ليشترطَ علينا الشبهَ به كي يستقبلنا. خلال العقد الماضي تحوّلت عشرات البيوت في دمشق القديمة إلى مقاهٍ متشابهة إلى درجةِ الضجر.
لم يعد مرتادو المقاهي يهتدون إليها من موعدٍ محددٍ تحفظُهُ الذاكرة حينما يلتقون صدفة. خلال العقد الماضي تجرّأت التكنولوجيا فابتكرت حياة كاملة على شاكلتها، صار ممكناً صناعة موعدٍ في ثوانٍ باتصالٍ على الهاتف المحمول، أو إلغاؤه برسالةٍ على الـ”واتس آب”.
يخمّن عبد الله نعيم أن الزمن استحدث فقهاً تغيرت بموجبه تفاصيل ارتياد المقاهي، لا يزال يجلس في الفضاء المنحوت بعناية في هواء مقاهي “ساروجة”، يراجع دفتر الأيام، بما فيه من صور، يتذكر كيف كانوا في بداية العقد الماضي يتفقون مسبقاً على موعد لقائهم المقبل. لم يكن الهاتف المحمول متاحٌ اقتناؤه حينها. يقول: “بضعة أماكن في دمشق كانت تستقطب حاسة الجلوس فيها، الرِواق، نادي الصحفيين، نادي العمال، رابطة المحاربين، ع البال، كنّا نقتاد بعضنا البعض إلى تلك الأمكنة وكأنها لقى، وكان سهلاً استنتاجُ الدهشة، وهي تنبسطُ فوق الوجوهِ الجديدة حال ترتاد تلك الأمكنة لأول مرّة، وحال تنضبط كيمياؤها الداخلية مع فُسحاتٍ من القهوة أو البيرة والنبيذ”.
إضافات ذكيّة
لم يعد الاتكال على الحواس في جلساتِ المقاهي كافياً، ولم يعد بالإمكانِ الاحتماءُ بجسدٍ متنفّذٍ بحواسهِ، فالمقاهي التي لا تبذلُ سوى صوتِ الأغاني التي تبعثها مكبراتُ صوتٍ مدفونةٍ بعنايةٍ في الزوايا تبددت خلال السنوات الماضية، وحلّت مكانها شاشاتُ الـ”بلازما” المدفونة بعنايةٍ في بطنِ الحيطان، وصار بمقدور “الواي – فاي” مصادرة باقي الحواس أو الاستحواذ عليها، بعدما تطعّمت كلُّ الأيادي بسلالاتِ الـ”سامسونج” الصيني المنشأ، وصارَ جائزاً الابتلال بالذاتِ وحدها في جلسات المقاهي، لكلٍّ كرسيّه، ولكلٍّ هاتفهُ الذكي، وشعورٌ طفيفٌ بالاستئناس لا يقدّم ولا يؤخر في شيء.
حالياً تعتقد ليلاس كرم أن جلسات المقاهي ليست أكثر من “لمّة” أصدقاء، ولا تتهرب من حقيقة تشابه أجساد تلك الأمكنة، ومن حقيقة نمو التكنولوجيا في تفاصيل جلسات المقاهي. تقول: “صحيحٌ أن التكنولوجيا المصاحبة للهواتف الذكية قد بددت بعضاً من حميمية الالتصاق بجسد المقهى، ومن تفاصيل ارتياده، لكنها لم تنقص من ودّنا نحوه. لا يزال جسد المقهى يغوي بالجلوس عليه”.
موالاة ومعارضة
كما لم تعد الأحاديثُ التي تطالُ النظام السياسي القائم رفضاً أو نقداً في زمن الخوف ورهابه محكومةً بالاستبدالِ الطارئ بأحاديثٍ أخرى. خلال السنوات الثلاث الماضية صحّح حراك عام 2011 ألوانَ تلك الصورة وفرزها على نحوٍ أدق، فصارت المجاهرة بالودّ مع النظامِ أو بالنفور منه متاحةً أكثر مما مضى، وصار للمعارضين مقاهيهم، وطاولاتهم، وبالمثل صار للموالين مقاهيهم، وطاولاتهم أيضاً.
لذا لا ينكر نجيب ورده أن ما نجم عن حراك عام 2011 تعدّى الانقسام السياسي بين مؤيدي النظام القائم وبين معارضيه، ليطال كافة تفاصيل الحياة بما فيها أجساد المقاهي. يقول: “صرنا نتجنّب الجلوس مع بعضنا إن كنّا منقسمين حول موقفنا من السلطة والنظام القائم. لقد تبددت الكثير من الصداقات الحميمة، وصار الموقف السياسي ينتقينا ليجمعنا حوله، وحول طاولةٍ في مقهى، لقد تغيّر كل شيء في سوريا بعد آذار عام 2011”.
ومن دون انتباه، يزيد الانقسام السياسي من المسافاتِ بين طاولات المقاهي، ويعيد بلا ودّ التحديق بالجميع، المعارضون على طاولاتهم، والموالون على طاولاتهم. لا كهرباء، ولا تدفئة، ولا دهشة تعبر مفترقات الطرق والأحاديث. فقط العتمة والبرد هما لقمةٌ يتقاسمها الجميع على طاولاتهم الفقيرة.
صحيفة السفير اللبنانية