
تزامن في الأسبوع الماضي حدثان، “جرسة” (اللبنانيون يلفظونها بالصاد) جرسة أبو عمر في لبنان، وتأويل مدهش لأغنية الرحابنة “هالسيارة مش عم تمشي”. وفي تفاصيل الحدثين تقاطعات تضيء مسألة “الدولة العربية” التي تعاني منها شعوب المنطقة. وما تقاطع الحدثان أو تزامنهما في هذه الفترة إلا إضاءة على نوع من “ملعنة التاريخ” في محاولته وخزنا بالحقيقة علنا نستفيق أو نتحفز ليقظة تمهد لتغيير صحي حقيقي وفاعل.
طلع علينا ناقد لبناني (لم أعرف أسمه) بتحليل مدهش سجله في فيديو انتشر على الشبكة بسرعة وبقوة. تناول هذا التحليل أغنية فيروز من مسرحية ميس الريم “هالسيارة مش عم تمشي”، ورأى هذا الناقد أن الرحابنة قصدوا بالسيارة “الدولة”. وأرادوا أن يعبروا عن حقيقة أن “الدولة مش عم تمشي”، وتحتاج لمن يدفعها “بدها حدا يدفشها دفشة”. كما أوضح أن مسألة الإصلاح المدعي في الدولة هو كـ ” ورشة التصليح” في الأغنية. “بيحكوا عن ورشة تصليح” ولكن أحدا لا يرى هذا الإصلاح، ولا يلمسه، “وما عرفنا وين هي الورشة”. وتنتهي مسرحية ميس ريم ، التي تشكل “السيارة اللي مش عم تمشي” أساسها، تنتهي وهذه السيارة دون تصليح و”مش عم تمشي”. أي أن الدولة بقيت معطلة و”مش عم تمشي” حسب رأي الناقد المجتهد والمبدع.
تحليل الناقد للأغنية منطقي ومعقول وفيه نظر. وتأويله لا يخالف جوهر الأغنية أو المسرحية. وسواء أراد الرحابنه التعبير عن الدولة بالسيارة المعطلة فعلا، أم أن الناقد فسرها بهذا الشكل، فإن المعنى مدهش فعلا. وربما اكتسبت الأغنية بهذا التفسير والتأويل جمالية تضاف إلى جمالياتها الفنية من الشعر واللحن. وهي جمالية المعنى الحساس والمصيري والمهم. “الدولة اللي مش عم تمشي”!
اما الحدث الآخر المتزامن مع “الدولة اللي مش عم تمشي”، فهو حدث أو جرسة أبو عمر. وأظن أن كلمة جرسة اللبنانية مشتقة من الجرس، رغم أن اللبنانيون يلفظونها بالصاد لا بالسين. وهي تعبر عن الفضيحة التي تتردد أصداؤها في الأرجاء الأربعة كما تتردد أصداء الجرسي وهو يقرع ويجرس.
هذه “الجرسة” ليست أغنية من شعر ولحن، بل حدث حقيقي واقعي، لكنه يقترب من الخيال بعجائبيته المؤلمة. روى أستاذ علوم سياسية قصة أبو عمر. حداد أفرنجي يتقن تقليد الأصوات واللهجات. وفي مزحة بناها بالاشتراك مع أحد شيوخ شمال لبنان، قام بالاتصال بنائب من نواب شمال لبنان، وأدعى على الهاتف أنه أمير من الديوان الملكي السعودي. وقال للنائب (نحن في الديوان الملكي نتابع مواقفك في البرلمان ونقدر أعمالك الوطنية وسيكون لك زيارة للمملكة قريبا. ولكن أريد أن أسألك: هل تعرف الشيخ فلان “صديق أبو عمر”) فأجاب النائب (نعم اعرفه) فقال له الأمير المزيف (دير بالك عليه). وفي اليوم الثاني قام هذا النائب بشراء سيارة فاخرة جديدة من الوكالة وأهداها الى ابن الشيخ. عندها طابت اللعبة لأبو عمر وشريكه الشيخ، وراح يتصل بالنواب نائبا بعد الآخر، مدعيا أنه الأمير السعودي المزعوم ويطلب من هذا النائب تبرعات، ومن ذاك مواقف سياسية، ويعد هذا بالوزارة، ويحرض على مهاجمة جهة سياسة معينة. وينصح آخر على التبرع للجهة الفلانية… وهكذا. وحسب أستاذ العلوم السياسية، خدعة أبو عمر مرت وانطلت على الكثير من النواب بأمل نيل الدعم من المملكة. انطلت الخدعة على الجميع عدا جبران باسيل الذي رفض الرد على مكالمة الأمير المزور. كذلك توجست السيدة بهية الحريري من اتصال أبو عمر وارتابت بأمره فاتصلت بالسفير السعودي وسألته عن الأمير المتصل فكشف أمره. وجرت ملاحقة اتصالات أبو عمروتم القبض عليه. والمصيبة ان ما تسرب من اعترافاته في التحقيق كشفت هزالة السياسيين ووضاعتهم ومدى استعدادهم للخضوع للخارج دون التأكد من حقيقته وبدون التثبت من أنه غير مزيف. سياسيون مستعدون لرمي أنفسهم تحت أقدام الخارج رغم زعيقهم بالسيادة ليل نهار. وهؤلاء السياسيون ليسوا إلا جوهر الدولة “اللي مش عم تمشي”.
ما رأيكم لو نضيف شخصية أبو عمر إلى شخصيات مسرحية ميس ريم كي تكتمل قصة عطل السيارة “الدولة اللي مش عم تمشي”. لأن البلاء ليس في الصراع الأهلي بين أهل العروس وأهل العريس فقط، كما جاء في المسرحية، بل البلاء أيضا بارتباط ولاة الأمر والسياسيين بالخارج واستعدادهم للخضوع إلى أوامر خارجية حتى لو كانت مزيفة طمعا بمزيد من السلطة والنفوذ. لا أظن أن عاصي الرحباني فاته ضم أبو عمر إلى ميس الريم وهو الذي فضح أصحاب السلطة عندما صورهم بالمسرحية بالمخاتير العجزة التابعين واللاحقين بالمختار الذي يحل كل مشكل لمصلحته الشخصية. لا أظن ان عاصي غفل عن ضم أبو عمر، بل أعتقد أن الواقع العربي بات أكثر ابتكارا للبلاوي وللفساد السياسي ولنذالة الحكام في التعطيل والتدير والانهيار. ابتكار السياسيين ونذالتهم باتت تتفوق على أي خيال حتى لو كان عبقريا كخيال الرحابنة.
تزامن جرسة أبو عمر مع إضاءة وكشف معنى “هالسيارة مش عم تمشي” ربما يكون إحدى حركات “ملعنة التاريخ” في تأكيد أن “الدولة العربية بشكل عام ن إلا من رحم ربي “مش عم تمشي”. وهذه الملعنة من التاريخ ربما يكون هدفها تحفيزنا على إيجاد “ورشة تصليح” قادرة على إصلاح الأعطال المتراكمة في أنظمة ومحركي المؤسسات والمفاصل الحاكمة والمتحكمة. عل التصليح يقودنا الى الإصلاح الذي يعيد تشغيل السيارة كي تمشي الدولة بدون دفشة وبلا أمراء الخارج المزيفين. ودون خضوع “مختار المخاتير” إلا للمصلحة الوطنية والسيادة وخدمة الشعب بشرف.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة


