ممدوح عدوان… مرثية قبل الانطفاءة الأخيرة (خليل صويلح)
خليل صويلح
«أعرف أنك قابع قربي، وأنك تنتظرني، وأن بيننا موعداً لن يتأخر». في ذكراه العاشرة، أفرجت رفيقة دربه عن مسوداته لتصدر أخيراً تحت عنوان «قفزة في الهواء» (دار ممدوح عدوان ـ دمشق). يحضر صاحب «الدماء تدق النوافذ» في منطقته الأثيرة، وهي حقل الشعر، وإن كان قراء كثر يفضّلونه في ميادين أخرى، مثل الترجمة والمسرح والعمود الصحافي.
لا مسودات بخط يده كي نقول «هذه كانت آخر قصائده». في سنواته الأخيرة، اعتاد ممدوح عدوان (1941ـــ 2004) أن يكتب نصوصه على حاسوبه مباشرة. وها هي رفيقة دربه إلهام عبد اللطيف تُفرج أخيراً عن تلك النصوص، بعدما تردّدت كثيراً في نشرها، ذلك أنّ الشاعر الراحل ترك ملفات غير مكتملة، أو «قصائد ناقصة» وفقاً لعنوان أحد الملفات، فيما وضع نصوصاً أخرى في ملف بعنوان «شغل شاعر»، إضافة إلى نصوص جاهزة كان ينوي نشرها في كتاب بعنوان «قفزة في الهواء»، وهو الاسم الذي صدرت به القصائد الأخيرة مجتمعةً (دار ممدوح عدوان ـــ دمشق).
هل تكفي عبارة «مقارعة الموت» في توصيف هذه النصوص؟ على الأرجح، فإنّ صاحب «تلويحة الأيدي المتعبة» أدرك خلال مرضه أنّ جسده سينطفئ قريباً، فقام بجردة حساب مع حياته الصاخبة، وهي تذوي بالتدريج «سأموت بلا صخب، وبلا استئذان، كأنني اليوم حبوتُ، وسأشيّع نفسي دون أذان، دون عويل أو صوت». لكن هذا الاستسلام للموت ينطوي على مبارزة ينتصر فيها الشاعر تارةً، ويخسرها طوراً، وفقاً لجرعة الألم، وقوة الحياة، وهما يتناوبان على الجسد المنهك: «آن أن نرجع للبيت، هذا الليل أقبل مثل الطواغيت، وهذا البرد ينسل إلى نقي العظام»، و«آن لي أن أقول وداعاً، وآن الرحيل». في « شغل شاعر»، يحضر الموت بسطوة أكبر، حتى إن الشاعر يخاطبه بألفة وحميمية ورجاء «تمهّل صديقي.. هي هزّة منا، وأسقط عن غصون الحلم توتا، هي رغبة أن أكمل الإنشاد ثم أموتا». في المقابل، ستتلاشى نبرة السخط التي وسمت تجربة صاحب «أمي تطارد قاتلها»، كأنه أدرك انطفاء حنجرته، وذهب إلى ترتيب عزلته الأخيرة، في تمرينات شاقة على مواجهة الموت، واستعادات خاطفة للألفة المفتقدة في الوحشة، وهو بهذا يلتفت إلى الداخل وملامسته عن كثب، بفحص ما هو قريب ومرئي ومفتقد، فالحنين إلى الموجودات التي لم يعرها انتباهاً، في أوقاتٍ أخرى، تأخذ حصتها من اهتمامات الشاعر، من دون أن يتجاهل قرب لحظة الموت: «أعرف أنك قابع قربي، وأنك تنتظرني، وأن بيننا موعداً لن يتأخر».
بهذه العبثية يواصل ممدوح عدوان تدوين يومياته الأخيرة، أو مراثيه الشخصية، إذ تتساوى لديه كفتا ميزان الحياة أو الموت: «حين يجيء وقتك، لن تحتاج إلى أن تقرع الباب، تعال، وادخل كأنه بيتك» يقول. عدا مناوشة الموت، وتحديه ربما، ستبزغ إشارات تتعلق بشهوات الجسد المنهك وإحصاء خسائره أمام فتنة الأنوثة. تتماوج مفردات حسيّة هنا وهناك، كأنها بمثابة تشبّث أخير باللذة الآفلة، وصعوبة تحققها بالنسبة إلى جسد يحتضر. في المتن والفهرس، سنقع على قصيدة «قفزة في العراء». مرثية طويلة لأحد أصدقاء الشاعر، فهل وقع معدّو الكتاب للطباعة في خطأ مطبعي، فتحولت كلمة «عراء» إلى «هواء» في الغلاف؟ لا شك في أنّ العراء أكثر إقناعاً وقرباً من مناخات الكتاب من مفردة الهواء، لكن هذا الأمر سيظلّ معلقاً في غياب صاحب الكتاب، كما ستغيب تواريخ كتابة القصائد، لكن نظرة متأنية إلى مكاشفات الشاعر توحي بأنه كتبها قبل رحيله بفترة قصيرة، بدليل يقينه التام بفقدان أمل الشفاء، وأن السرطان تمكّن منه أخيراً، بعد رحلة علاج طويلة، حين يقول «أنا لا صوت لي غير هذا الأنين، إنني كتلة من حطب/ صرت روحاً مخبأة في ضريح»، و«ها أنت تغادر دنياك وحيداً»، و«إني أرتّب بعض شؤوني، وأوشكت أن أنتهي». لكنه يباغتنا في الجملة الأخيرة من الكتاب قائلاً: «لكنني سأخدعهم هذه المرّة أيضاً، ثم لن أموت».
في ذكراه العاشرة، يحضر صاحب «الدماء تدق النوافذ» في المنطقة الأثيرة بالنسبة إليه، وهي حقل الشعر، وإن كان قراء كثر يفضّلونه في حقولٍ أخرى، مثل الترجمة والمسرح والعمود الصحافي، وقبل كل ذلك، في حضوره الشخصي الصاخب كمثقف متمرّد ومشاغب وعنيد، لطالما وقف عكس التيار، وخاض معارك وسجالات ساخنة، في ساحة ثقافية مهجّنة يغلب عليها الركود واللامبالاة والغبار، كانت حصيلتها منعه من الكتابة أكثر من مرّة. في المناسبة نفسها، ربما علينا إعادة قراءة كتابه الأخير قبل رحيله، في طبعته الجديدة «حيونة الإنسان» بوصفه بياناً شاملاً في فحص وتشريح وفضح تاريخ الطغيان والعبودية والإذلال.
وحشة الطريق
هل يحق لنا التلصّص على مسودات ممدوح عدوان؟ ربما كان سيتلف بعضها، أو يرمم بعضها الآخر، أو سوف يذهب إلى نبرة مضادة في كتابةٍ ثانية، أو ثالثة. في بعض نصوصه القصيرة غير المكتملة في كتابه «قفزة في الهواء»، يقع تحت وطأة الإيقاع العالي، مسترسلاً بمتواليات لا تقود إلى ملاذ، أو فكرة نهائية، أو شعرية صريحة، فنحن إزاء بروفات شعرية يختلط فيها صوت الكمان بالإيقاعات الشرقية الصاخبة. وإذا بالعزف المنفرد يغيب ويتلاشى بمكاشفات حياتية تنطوي على ارتباكات وصايا الوداع، أكثر من اعتنائها بالخطاب الشعري، وبالحنين والفراق والوحدة على حساب الصورة المبتكرة، في حداء طويل ومرير وأليم، يشي بقلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.