ممدوح وسيارته
سيصدر كتاب عن ممدوح عدوان للكاتبه نهله كامل ، نشر دار التكوين والغلاف هو سيارة ممدوح القديمة الكوكسونيل وقد اكلها الغبار والنسيان. بهذه المناسبة …هذا النص .
” الكتابة لم تأت لي بثمن السجائر التي دخنتها وأنا أكتب” كارل ماركس، هذ الرجل الذي تفرغ لفهم عصره وتغييره، والذي بريشة قلمه كتب 85 مجلداً… لم يمتط أحدث موديلات السيارات، فيما بلاده تحترق، ولم يكن لديه عربة إطفاء، بينما تصطف في كراجات أغنياء ـ لصوص سورية عشرات السيارات يعلفونها كالخيول حنطة الشعب لسوري، ولقمة جوعه.
حين لدى المثقف والكاتب مشروع يأكل سنوات عمره…. لم يكن يفتش عن سببه الخاص للجلوس تحت فوانيس العصور الوسطى، ليكتب.
ولم يكن، في أيامنا، يكتب ليكسب ويصبح ثرياُ، يتعالى على الناس من شرفة عزلته... بل لأن هناك ما يجب أن يقال ويوصف ويُشحن ويغيّر في بنية وجدان البشر، يغذي خيارات البشر.
لن يكون بوسع أحد أن ينسى النار الجبارة، التي كانت إحدى وظائفها النور، وتغيير سلوك الإنسان باختراع الطهي على النار، وهي تجعل، في ساعات، الأشجار تذروها الرياح.
لقد التهمتنا النار، لأننا عاجزون
لقد التهمتنا النار، لأننا عاجزون. لأننا لم نشتر السيارة التي تطفىء الحريق، ولا الطائرة الي تجيء بالماء، بدلاً من أن تقتل بالقنبلة.
ولأننا، بعد الحريق، سنتفرج على وحوش المال، وهم يرسمون خطط استثمارهم بخراب البيوت، وحرائق الشجر ودموع وآلام البشر.
حين كان الشاعر السوري ممدوح عدوان يحتضر، بالسرطان… سألني رأيي بمسيرته الثقافية. وكنت أعرف أنه يقصد: هل سيذكرني أحد بعد السنة الأولى للموت؟ قلت له: يا صديقي، أنت ذلك العصفور الذي شوهد رافعاً ساقيه وهو مستلق على ظهره، حين سألوه عن السبب، قال العصفور: “سمعت أن السماء سوف تسقط، وأنا أحاول أن أسندها”.
لقد كتبتَ حوالي 90 كتاباً في كل فنون الكتابة، ورأيي أن من يفتح ورشة ثقافة بهذا الحجم لن يجد الوقت الكافي للعيش بعيداً عن طاولة الكتابة. ربما تزعم ـ ياعزيزي ـ كما قال نيرودا ، شاعر تشيلي، في الصفحة الأولى من مذكراته: “أعترف أنني قد عشت”.
وأنا أظن أن آلاف القبعات سترفع عندما يذكرون إنجازك… ولكن لا أحد بوسعه. مهما أحب إنجازك، وتعاطف مع عشرات الكتب التي اشتهرت بها، أن يساعد رئتيك وقد أنهكتها السجائر الوطنية الرديئة التي اسمها “الحمراء”. صمت ممدوح وأحسست بأنني لم أساعد سؤاله كما ينبغي، وأظنه غادرنا بأسئلة لا بأجوبة.
أمس مررت بسيارته الفولكس الخنفساء. وهي مرمية في الشارع الجانبي المحاذي لبيته المهجور بعد أن مات ممدوح وزوجة ممدوح وهاجر ابناه إلى الغربة…
سيارة ممدوح هذه اخترعت دروباً، ومسارات وامتلأت برحلات وصداقات. وهي الآن خردة مكسرة، وصدأ له معنى، وعجلاتها تفتتت، ودروبها أغلقت.
أنا لو أملك نقوداً لإصلاحها لأعدت إليها الحياة، ولكنني، أيضاً، أفضّل أن تبقى كما هي، علامة رصيف عصرها في مدن الحداثة الهرمة!