من إنتصر في العُشرية السورية السوداء ؟
بين 10 و15 سنة ، هو تقريبا العُمر المطلوب في الحروب لتدمير الدول أو لاخراجها عن سكّتها. في الجزائر مثلا كانت “عشرية سوداء” منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي أنهكت البلاد قتلا وإرهابا واقتصادا. في العراق حصل الغزو بعد حصار استمر تقريبا 13 سنة في أعقاب ارتكاب الرئيس صدام حسين خطيئة اجتياح الكويت، فلماذا لم يحصل الغزو قبل ذلك مثلا ؟ في لبنان تقريبا كل 10 سنوات هناك حرب اسرائيلية أو حرب او خضّة هائلة داخلية.
قد يكون الأمر صُدفة أم لا، وربما لا داعي للإطالة فيه. لكن بعد 10 سنوات على الحرب السورية، يكاد المشهد ينحصر بأمرين بالنسبة للسوريين، الأول يُعبّر عنه معظم رموز المعارضة فيتحدثون عن خذلان من مجتمع دولي ويأس ويعدّدون أخطاءهم الكثيرة، والثاني يعُبّر عنه الموالون للدولة السورية فيركّزون على الفقر وتدهور الإقتصاد وقلق المصير.
بهذا المعنى الضيّق، يُمكن القول إذاً، أن لا المعارضة ولا الموالاة تستطيعان المجاهرة ب” النصر“.
لو وسّعنا النظرة قليلا، نجد أن عدم إتفاق المعارضة والسلطة على حلّ مقبول بحدوده الدُنيا، وضع الطرفين أيضا في لعبة محاور، افادت المحاور أكثر مما نفعت السوريين أنفسهم. فلا شك اليوم أن وضع روسيا وأميركا والاتحاد الأوروبي وإيران وتركيا والسعودية وقطر وغيرها من الذين لعبوا أدوارا في الحرب السورية، أفضل بكثير من وضع سوريا الرسمية أو المُعارضة.
موازين القوى
لكل من الطرفين ما يتسلّح به لشرح وجهة نظره، فالسُلطة تقول إنها نجحت في ” صد مؤامرة ” كونية شُنّت على البلاد لتغيير النظام وزجّه في منظومة ” محور الاعتدال” المُنفتح على الغرب الأطلسي والقابل بالتطبيع مع اسرائيل، وتقول أيضا إنها أفشلت المخططات الغربية والتركية والعربية لاسقاط النظام ورحيل الرئيس بشار الأسد. وتقول السلطة أيضا ان ثباتها ساهم في الحضور الروسي الكبير الى البحر الأبيض المتوسط وهذا مهم في المعادلات الدولية الكبرى حاليا ومستقبلا، وفتح أفقا أوسعا لتوازن عسكري مع اسرائيل من خلال الانخراط المُباشر لايران وحزب الله عند الحدود السورية الفلسطينية.
والمُعارضة ( التي صارت معارضات متناحرة)، تقول إن ” النظام نجح بفرض سيطرته على 60 بالمئة من الأراضي السورية بالقوة والبطش والبراميل وبفضل روسيا وإيران وحزب الله … وغيرها وان ملايين السوريين نازحون ولاجئون او في المخيمات “، وأن العودة الى ما كان عليه الوضع سابقا مُستحيل.
حُلفاء السلطة يقولون إن المُقارنة تُظهر ان الأمور هي لصالح السُلطة لا المعارضة. فالأسد بقي، والجيش لم يتفكك، والمدن الكبرى بيد هذه الدولة، وثمة نسبة سكانية كبيرة ( تتراوح بين 60 و80 بالمئة وفق التقديرات) تعيش في المناطق التي تُسيطر عليها الدولة، وثمة تحولات عربية واضحة وجدية للانفتاح قد تُفضي الى اعادة دمشق الى جامعة الدول العربية، ناهيك عن الآفاق التي قد يفتحها التفاوض الايراني الأميركي، أو التصادم الأميركي، مع ايران وروسيا… ففي الحالتين سينعكس ذلك دعما للسلطة وليس المعارضة.
لكن هذه الدولة بقيادة الأسد، فقدت قسما منها لصالح تُركيا التي تتصرف بالاقتصاد واللغة والتعليم والأمن في المناطق الخاضعة لنفوذها كأنا باقية أبداً، وهذه الدولة تواجه حاليا عودة أميركية قوية لدعم الكرد، مع ما يفرض ذلك من ابتزاز زراعي ونفطي، وهذه الدولة مضطرة لمجاراة الرئيس فلاديمير بوتين في حركته السياسية والدبلوماسية في كل المحيط العربي والاقليمي وصولا الى الاسرائيلي.
منذ اشتداد الخناق الاقتصادي على سورية، تبيّن ضيق هامش المناورة الاقتصادية عند حلفاء الأسد، بحيث أن سرعة التقدم العسكري مع الانخراط الروسي الُمباشر الى جانب الحليفين الآخرين لسوريا أي إيران وحزب الله، لم يترافق مع الدعم الاقتصادي والمالي ( لا بل والعسكري الى حد ما) المطلوب لتغيير المعادلة برمّتها. قد يُفسر ذلك بان روسيا وايران ايضا مخنوقتان اقتصاديا، لكن بعضا من التصرف الروسي يُفسَّر كذلك في سياق المناورات الدبلوماسية الروسية التي تناقض بعضها مع مشروع الدولة السورية وإيران والحزب. والا فكيف نُفسر الصمت الروسي على كل الهجمات الاسرائيلية؟ ولماذا لم يُسلّم الجيش السوري قدرات صاروخية فعلية يستطيع من خلال التحكّم باسقاط طائرات اسرائيلية معادية؟
لا ندري حتى الساعة مآلات العلاقة الروسية الاميركية وتطورها. والواقع أن هذه العلاقة ستُحدّد الكثير من مستقبل الحرب السورية. ذلك أن لا حل نهائيا بلا توافق الطرفين. أما اذا تصادما على الأرض السورية، فيُصبح المشهد مفتوحا على أكثر من إحتمال، مع امكانية أن تربحه روسيا لا أميركا، ذلك أن ثمة تسليما ضمنيا عند واشنطن بأن سورية هي ساحة روسية لا أميركية، مع احتمالات ازعاج الروسي طبعا في ساحات أخرى.
ماذا بعد 10 سنوات؟
- تحتاج الدولة السورية الى تدفقات مالية كبيرة كي تستمر. هذا يفترض الانفتاح أكثر على دول الخليج. وهو ما يحاول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروق القيام به في الوقت الحالي. قد ينجح وقد تُعيقه واشنطن
- اذا كانت الإمارات والبحرين قد اعادتا فتح سفارتيهما في دمشق، فإن الدولتين كما السعودية وقطر والكويت ومصر وغيرها لا تستطيع خرق قانون قيصر الأميركي والاقدام على تغيير سياسيي جدي حيال دمشق بلا مؤشرات ايجابية من قبل الدولة السورية. هذه المؤشرات تتعلق بأمرين، أولهما اللجنة الدستورية وثانيهما مستقبل الوجود الايراني على الأراضي السورية.
- حاول الرئيس بوتين أيضا فتح كوة في جدار آخر. عمل على ترتيب تبادل أسرى بين سورية واسرائيل. هذا احتمال يُمكن أن يتوسع لاحقا لكنه ما زال شديد التعقيد.
- ثمة من يُراهن على أن استئناف التفاوض الاميركي الإيراني، سينعكس انفراجا سياسيا وربما اقتصاديا على سورية. الاحتمال ممُكن لكنه ما زال بعيدا، وسوريا تحتاج الآن الى مساعدات وليس غدا، فوفق التقارير الدولية الجوع قد يضرب 60 بالمئة من الشعب.
لا يُمكن انتظار تنازلات كبيرة من قبل قيادة الأسد. فهي تعتبر أن ما لم تقدمه في أوقات الوهن الأمن وفقد معظم المدن الكبرى، لن تقدمه الآن. وهي أصلا لم تقتنع يوما بوجود معارضة في الخارج، وفاوضتها فقط لتسهيل عمل الروس على المستوى الدولي ولربح الوقت. وستكون الانتخابات الرئاسية لحظة حساسة جدا ما لم تسبقها تسوية ما حول اللجنة الدستورية. أما المُعارضة فهي تعتبر أنها لو أقدمت على تنازلات جديدة فهي ستفقد ما بقي عندها من ورقة توت، لذلك تتشدد.
بعد 10 سنوات على الحرب السورية، يبقى المشهدُ ضبابيا، ولن تتوضح معالمه الآ من خلال الاتفاق او التصادم الأميركي الروسي.
لكن هناك امكانية لشيء مغاير تماما قد يقلب كل المُعادلة، وهي في أن يجتمع السوريون أنفسهم، ويعضوا على الجرح، ويقتنعوا بضرورة الاتفاق على مشروع انقاذي لسوريا، يقفز فوق الجراح والفتن والدمار والتدخلات الخارجية، ويقدّم حلولا مقبولة لقيامة دولة عريقة من تحت الرماد، دولة فيها أقدم المُدن المأهولة عبر تاريخ البشرية جمعاء.
لا الاميركي ولا الروسي ولا التركي ولا الايراني ولا الاسرائيلي ولا الاوروبي ولا أي طرف خارجي آخر، سيكون حريصا على البلاد كأهلها.
بعد 10 سنوات من الحرب، لا مكان للحديث عن ” انتصار” طالما أن سوريا برمّتها جريحة وثكلى وفقيرة ومقهورة، وغالبا ما يكون الانتصار الاجتماعي والاقتصادي والنفسي والعمراني بعد الحروب أصعب بكثير من الانتصار العسكري. أما على صعيد المحاور الكُبرى، فلا شك أن روسيا تقدمت كثيرا على الأطلسي في المعركة السورية. وهذا هو التحول الأبرز منذ 10 سنوات، فهل يستمر أم يواجه إدارة جو بايدن؟ لعله السؤال الأخطر حاليا. بانتظار ذلك، لا شك ان الحرب السورية ستبقى في ذاكرة الآجيال المقبلة كواحدة من أشرس وأبشع الحروب، وستكون في المعاهد العسكرية مثالا على كيفية خوضها على رقعة شطرنج شاركت فيها دول العالم قاطبة.
خمس نجوم