من القلب إلى فم القلم
كثيرون هم الذين فكروا في كتابة أول شيء ، أول سفر ، أول بيت ، أول حب .. هذه الأوائل تمضي كلها كي تغدو في الذاكرة مصدراً للحنين ومستودعاً للذكريات، هكذا هي الحياة أول كل شيء مبهج ! ترددت كثيراً قبل أن أخط أول حرف في هذا الكتاب ..فأنا لست كاتباً أو أديباً ، ولا أحب أن أخدش شعور وإحساس أساتذتنا من الكتاب والأدباء ! القراءة والبحث والتجربة وفرت لدي ذخيرة من المفردات ،وكانت دوافعي إلى دخول عالم الكتابة جائعاً ، تولد الفكرة في رأسي وتبقى في بكارتها إلى أن أجلسها على السطور! أجد صعوبة في كتابة الجملة الأولى ، والسطر الأول ، كما هو الحال في الحب الأول! كنت ومنذ سنوات بعيدة أدوّن الخواطر على أوراق مبعثرة، وكثيراً ما كنت أتفقدها وأعود إليها محاولاً ترميمها وتبويبها ! فقد ألحّ علي بعض أصدقائي بأن ألملم أوراقي القديمة ،وأجمع ما كتبته في كتاب يحفظها من الضياع، فاستجبت لنصيحتهم، ووجدتها فرصة أستعيد فيها قراءة وتنقيح مذكراتي! أخيراً عثرت على الجملة الأولى التي أبدأ بها هذا الكتاب :
أخطو خطواتي الأولى والخجولة في عالم الكتابة ، أعترف بخوفي وقلقي وأنا أقدّم هذا المولود الوحيد في عالم الأدب ،فقد سبق وأن قمت بكتابة كتب أخرى في عالم الالكترونيات وهو اختصاصي في الجامعة وفي حياتي الهندسية ، فأنا لا أعرف عملاً أكثر جرأة من إقدام المرء على نشر كتاب في اختصاص لم يألفه من قبل! سيكون هذا المولود الأول والأخير فيما تبّقى من سنوات عمري التي تركض برشاقة ، كوني من محبي تحديد النسل! تأخرتْ ولادة كتابي ، وأفترض أن اهتمامي بالأدب طيلة أربعين عاماً يؤهلني لكتابة بضعة سطور يمكن لأحد أن يقرأها ويحولها إلى مشاعر وأحاسيس كما يريد ! فالكتابة ما بعد الخمسين لأول مرة شيء يشبه عودة المراهقة، وأشبه بعلاقة حب بيني وبين فم قلم بكر!
قيل لأحدهم يوماً : ها هو كتاب جديد ،فكان جوابه : إذن فسيكون أمامي يوماً آخر لأعيش ! فأنا أطمح في أن أزيد حياة القارئ يوماً كاملاً أضيفها إلى لحظات عمره، أردت في بداية مداعبة القلم للورقة أن أنقل جزءاً من محتويات ذاكرتي قبل أن تتبخر وتجفّ المعلومات منها، فالأفكار تولد في لحظات خاطفة، وقد تتلاشى من مخيلتي ما لم أسارع إلى تدوينها والاحتفاظ بها وأجلسها على السطور باطمئنان لتبقى على قيد الحياة ! في كل يوم كنت أقول غداً سأضعها في كتاب، انتظرت طويلاً حتى أتت هذه اللحظة التي حاصرت بها نفسي وأجبرتها على ما أريد عمله ، أعود إليك يا أوراقي بعد فراق ، بعد أن أحسست بفراغ في قلبي أصبحت لا أنام قبل أن أبتلع وجبتي من الأوراق والكلمات،وأنا الذي لم يكتب شيئاً منذ سنوات! ذكريات تراكمت في رأسي وكلمات كثيرة تتزاحم في ذاكرتي، أبتسمُ للذكرى والمشاعر القديمة ابتسامة حزينة، أناجي ذكريات الماضي ، ما أجمل استرجاع الذكريات لبعض الوقت ، الكلمات عاجزة عن قول ما يجب قوله في عالم الروح ، استسلمتُ لخواطري واعتصرتُ ذاكرتي، وفكرتُ أن أشرك قارئي في تأملها معي والاستفادة بعبرتها.. لم أكن أفكر بنشر كتاباتي ، أو إخراجها من المنطقة السرية المحّرمة في ذاكرتي ، لكنني وجدت أن حبس هذه الكلمات في دفاتري هو نوع من الأنانية، وأدركت أن حشد الأسرار في النفس كالخميرة في قلب العجين ، فقد وصلتُ إلى مرحلة لم أعد أستطيع الصمود أمامها، وليس لي المزيد من المقاومة أو تحّمل العذاب وحدي ، لن أظلّ جالساً قرب مسودات صفحاتي الكثيرة دون أن أفعل شيئاً ،فقد أتعبني البقاء أعواماً على قيد الكتابة ، وأخيراً خرج الكتاب عن صمته ، فاتخذت قراراً حاسماً بعبور كلماتي إلى ضوء الشمس ، وأن ترى النور ، وألاّ تبقى حبيس الأدراج والظلمة ، وأنا أعلم أنها مغامرة لا بد من خوضها أولاً وأخيراً، و كم يسعدني رحيلها ودفعها إلى جوف المطبعة ، إنها اعترافات مشاعري وأحاسيسي وأسراري أبوح بها بعد أن خلعتُ عنها ثياب الزمن ! معاناة ومواقف ، قصص وحكايات قد تكون سعيدة أو مؤلمة ولكن في النهاية أفكار وحكايات وخيالات ،أردتُ أن أبسطها على موائد أفكار الناس ، إنها عصارة روحي وخلاصة فكري ، إنها رحلة طويلة من المشاعر والعواطف التي استقرت في وجداني ، إنها اختصار الحياة في كلمات واستبدال الواقع بمخيّلة أخرى ، إنها حرق أصابعي في جمر الماضي ، إنها تسجيل حضوري في حصة الحياة ، إنها نداء الماضي ، إنها باختصار جزء مني ! حاولت أن أنقطع عن الكتابة، فشعرت بضيق في النفس ، واكتشفت أن الكتابة كالأكسجين يغذي الرئتين، والانقطاع عن الكتابة كانقطاع الهواء عن الإنسان ، وكإخراج السمكة
من الماء !
تخرج الكلمات من دفاتري بعد أن حبستها واستراح بعضها على السطور ثلاثين عاماً .. تستيقظ بعد رقاد طويل.. فقد انتهت الإجازة الطويلة التي أخذتها وقضتها في الجلوس والنوم واصطياد الغبار.. لكنها ما زالت تتنفس ! لا تزال صبية لم تتشقق حروفها..لا ذبول على شفاهها .. لا ترهلّ في جسدها ..وليس لها تاريخ ميلاد لتحتفل به ! كتاباتي هي الرحم الذي تنضج في داخله كل الحروف قبل أن تتشكل وتولد الكلمات، هي تعبير عن الحياة التي أتجدد معها ، كما تتجدد الفصول والأعوام ، هي الكشف عن أسرار الروح ونبضات القلب ، هي مشاعري وأحاسيسي منبعثة من أعماق فؤادي أدافع عنها ،هي بصمة يدي تخصني ولا تخص غيري ،أعطتني بما يكفي لأن يكون بديلاً لمتع الحياة ، ولدت من بئر لا تنفد ، من بئر لا ينزل فيها دلو دون أن يخرج ممتلئاً بالماء العذب ! هي كثمار التين لذيذة الطعم..حين تقع في الفم ينكشط جلدها عنها وتصل طازجة إلى الحلق ! أزرعها في عيون لا أراها ، وعلى شفاه لا أعرفها !
يا لقدرة الكلمات ، نحبسها على السطور، نجعلها وسادة لها ، ندفنها بين الأوراق ، نصنع منها كتاباً ، ثم نلقيه على الرفوف ، حتى إذا ما تسنى لها الخروج إلى الهواء الطلق ومصافحة العيون والاحتكاك بأسلاك النور ونفض الغبار عنها عادت إليها روحها وحيويتها ، إنها مفتاح العقل والشعور، تضع الإنسان في حالات مختلفة من الحب والشوق ، البغض ،الفرح والحزن .
أمسك القلم ،أملأه بحبر القلب، أصابعي تطاوعني وتستسلم لمشاعري وأحاسيسي المدفونة في داخلي ، أبدأ الكتابة ،القلم يبوح بكلماته كما الورد يبوح بعطره! فتنساب الكلمات حبراً وحباً بين أصابع يدي ، أمسك الحرف بيدي وألويه لألصقه بأعناق الحروف فأشعر وكأنني أعانقها ، أتسلّق على حروف الكلمات العذراء وأداعبها لأمنحها الحياة ، أختار لغة القلب في كتاباتي ، لأقول من خلالها التفاصيل والمشاعر ، ومهما حرصتُ على انتقاء الكلمات فقد أجد من يسيء تفسيرها! ما أن أنتهي من الصفحة الأولى حتى أهجم على الثانية ،ترتمي الكلمات على السطور، الكلمات لا تستأذن تهجم ، صفحات تتوالد وترجوني أن أملأها ، تتكدس الأوراق أمامي ، يتوقف قلمي فجأة، وتمضي يداي تلملم الصفحات المتناثرة أمامي، أقرأ وأعيد كتابة ما كتبت ، الأوراق البيضاء تستغيث ! ينغمس القلم مجدداً في الأوراق ، وتنبت الأفكار في رأسي من جديد ،وتصل إلى جنونها، فأسكب جميع ما أشعر به على هذه الأوراق، ولادات من الكلمات لا تنتهي تخرج من المخاض ، أخلع وأرتدي الكلمات عن ضجر، فأصحح وأعدّل وقد أمزق بعض ما كتبت ، فما أصعب امتحان الكلمات فوق الورق!
حين أكتب ثمة وهجاً من طبيعة خاصة أجده بين السطور، أحس بمتعة لا تفوقها متعة ، الكتابة منتج فكري تتطلب جلوس طويل وحذف وتمزيق ورق وشرود فكري وصمت ! إنها تفاعل بين القلب والعقل، إنها كالحمّى تستوطن الجسد ، إنها لون من الثمر والاشتهاء ، إنها غذاء للروح والجسد معاً !
لا أحد يسألني لماذا أكتب ، فهذا السؤال يذكرني بأسئلة أخرى متعددة ، ومن بينها: لماذا أعيش؟! أو كأن من يذهب إلى بائع الخبز ويسأله لماذا لا تبيع الورد ؟! لماذا أكتب ؟ لست أدري ، ولكني أستريح وأعيد اكتشاف نفسي وأنا أكتب! أكتب كي أتنفس ، وأشعر بقدرتي على معايشة الحياة ، أكتب ما يخبرني به قلبي، أكتب نفسي، وأستسلم لذاتي وأجدها في أحضان كتاباتي ، وأشعر بأن ما أكتبه أقرأه في الآخرين ، أكتب فأستنفر كل طاقاتي الداخلية وأفتح أبوابها ، فالكتابة عندي تأتي من أوجاع وألم وحزن وخيالات وأحلام ! أكتب لأبحث عن نفسي، أكتب لأضع بصمتي في هذا الكون وإلا ما فائدة مجيئي إليه ؟!أكتب حتى تظل شرايين الحب مفتوحة لكي لا يصاب القلب بجلطة عاطفية ! أكتب كي أسقي ظمأ الورق المتراكم أمامي ! أكتب وأعتصر دماغي دون أن أدفع رسوماً جمركية على أفكاري! أكتب ذكرياتي التي التصقت في فؤادي الذي ألجأ إليه في لحظات العتمة، وأفتح نوافذه وأبوابه ليدخل الضوء إليه ! أردت من كتاباتي استرجاع الحنين الذي سكن بين أضلعي ، وتذكّر من ألقى هذا الحنين في قعر ذاكرتي ، ولعّل إزالة الغبار عنها يوقظ الحنين في قلبي مجدداً !
أكتب بكل جوارحي ومشاعري ما أحسّ به ، ما ألمسه ، ما أتذوقه ، أعيد صياغة الحياة بتلك الكلمات الآتية من ذاكرة المكان والزمان ، أكتب من صميم أعماقي وأعضائي ..من عيوني ..من قلبي..من كبدي..ومن عقلي ، أكتب وأنا أشعر بحلاوة الكلمات الجميلة وبمرارة الكلمات الحزينة وكأنني أتناولها !
الكتابة هي الكيان الذي أتنفس داخله ، هي القلب الذي يوزع الدم في شرايين الوقت، هي العاطفة التي تجتاحني ، هي المعركة ضد العطالة للغة !
أكتب مواضيع متفرقة : في الحب والعشق ، في الغضب والهدوء ، في الفرح والحزن ، في الجفاف العاطفي ، وفي الحياة اليومية .. أفتح الكهوف المهجورة ، وأزيل التراب والصدأ والكنوز الموجودة فيها ، أكتب في لحظة حب جارفة ، أو لحظة عذاب فاجرة ، أحاول ببعض كتاباتي أن أرسم الابتسامة ، وأنتزع الضحكات من القلوب الحزينة !
كتاباتي هي تدفق للمشاعر الفياضة المخبأة تحت جلدي ..هي خواطر نثرية وتأملات سطرتها على الورق في ساعات خلوتي ووحدتي وصفاء نفسي ، وأكثرها كان في حزني ..هي أشبه بالمذكرات أو اليوميات..إنها سيرتي الذاتية التي كتبتني بكل أبعادي ودقائقي منذ أبصرت النور! كتاباتي تمسّ كل واحد فينا ، من أرض الواقع ، هي تجارب عشتها بتفاصيلها وآلامها وأفراحها ، إنها نماذج حيّة من حياتي ، فما أكتبه قد نشأ في قلبي وترعرع في شراييني ،تلك هي أحاسيسي بحروف وكلمات!أستطيع من خلال الكتابة قول وتفسير ما يحلو لي، فهي المساحة التي أتحرك داخلها وأشعر بالحرية الكبيرة فيها ، أستحضر ذكرياتي وأمشي معها إلى نفسي وروحي وقلبي ،كما الحياة مستمرة تستمر اللغة والتعابير والمشاعر والأحاسيس، وما دام القلب ينبض ، فإن القلم يكتب.. فقد تركت لقلمي النطق بلسانه والكتابة بفمه وبحبر دمه !
هناك الكثير من الكتابات التي هي جزء من مشاعري لا أريد أن أفرج عنها ، وهناك بعض الأشياء في حياتي عليّ نسيانها وتركها ترحل عني أو التظاهر بأنها لم تحدث معي أبداً ، وهناك أيضاً مناطق محظورة في حياتي لن أتطرق إليها في كتاباتي، وأحببت أن أحتفظ بها لنفسي!
لا أريد لكتاباتي المطوية في دفاتري أن يصيبها البرد ، ويغلّفها الغبار، وتأكل أوراقها الحشرات! أحلم أن تأخذ حقها في الحياة ، أن تقاتل من أجل حصتها من حبة القمح ومن ضوء الشمس ، أن تلامس شفاه القارئ وتنام في أحضانه بكل رقة وحب وإحساس! أحب أن أضيف إلى جسد مكتبتي كتاباً جديداً ،إنه جزء من حياتي! لا يعنيني إن خلّده التاريخ ، أو نسيه الناس !
إقامتي كشخص مؤقت في هذا العالم ليس في شهادة ميلادي وإنما فيما أقدمه للحياة التي قدمت لي الكثير ، وأحب أن يتذكرني الناس بعد موتي كإنسان كان لديه بعض الكلمات ليقوله، أكتب لكي تسمعوني ..لكي تقرؤوا عني بأنني عشت هنا وبأنني مررت بلا صمت..فمن يصمت كيف سيسمع صدى صوته ؟! اقرؤوا كتاباتي..اجعلوها تسهر معكم، إنها لا تنسى محبيها وإن غدروا بها أو تنكرّوا لها ، أقرأوا كتاباتي..ولكن أرجوكم لا تفتشوها ، لا تقرؤوا كلماتي كحروف مصفوفة ، ولكن استنشقوا عطرها وخبئوا شذاها في ذاكرتكم ، وابحثوا عن المولود في داخلها !
أعرف أن شلالات من الأسئلة ستهاجمني، ولئن بقيت على قيد الحياة فأرجو من الله أن يلهمني الصبر لأتحمل سوء ما سيقوله عني البعض ، و آمل أن تطول بي الأيام فأتمكن من إنجاز كتابي!
وأخيراً ..خذوا من كلماتي ما يتناول فمكم واكتبوا عني ما تشاؤون ولكن في حياتي وقبل أن ألفظ أنفاسي الأخيرة!
(من مقدمة كتاب للكاتب بعنوان “من القلب إلى فم القلم” صدر مؤخراً)