من الممرات إلى المناطق الآمنة.. حسابات إردوغان المعقّدة
شهد قصر السلطان عبد المجيد في إسطنبول احتفالاً خاصاً للتوقيع على اتفاقية الأغذية والحبوب الأوكرانية العالقة، وذلك بحضور الرئيس التركي رجب طيب إردوغان والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
ووفقاً للاتفاقية، ستقوم أوكرانيا بتصدير نحو 20 مليون طنّ من الحبوب والمنتجات الزراعية الضرورية العالقة في موانئها المطلّة على البحر الأسود، وأهمها أوديسا.
جاءت هذه الاتفاقية وفق الشروط الروسية، إذ قال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إنّ “الاتفاقية بشأن تصدير السلع الغذائية والأسمدة الروسية من الموانئ الروسية وُقِّعت أولاً. بعدها، جرى التوقيع على الاتفاقية بشأن تصدير الحبوب والسلع الغذائية من الموانئ الأوكرانية”.
ووفق الاتفاقيّة، سيُفتح ممر بحري بعرض 3 أميال وطول 140 ميلاً لمرور السفن التي تنقل الحبوب والمواد الغذائية الأوكرانية عبر البحر الأسود، شرط بيعها للدول غير المعادية لروسيا. في المقابل، سيكون هناك ممران من بحر آزوف، مروراً بيالطة وسيفاستبول (شبه جزيرة القرم)، بعرض ميلين وطول 110 أميال، لنقل المنتجات الغذائية والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية عبر البحر الأسود.
وبموجب الاتفاقية، يقوم العساكر الروس والأتراك، بحضور الأوكرانيين، بتفتيش كل السفن المغادرة والعائدة إلى الموانئ الأوكرانية، للتأكد من حمولتها ومنع تهريب المرتزقة ونقل الأسلحة إلى أوكرانيا. ويهدف إردوغان من خلال هذه الخطط لدعم سياساته في البحر الأسود وسيطرة أنقرة على منافذه وهي مضيق البوسفور وبعده الدردنيل.
تركيا الّتي جمعت وزيرَي الخارجية الروسي والأوكراني في مدينة أنطاليا في 10 آذار/مارس الماضي، وجمعت بعد ذلك بعشرة أيام الروس والأوكرانيين إلى طاولة المباحثات في إسطنبول، سعت، وما زالت تسعى، لأداء دور الوسيط بين الطرفين، على الرغم من بيع طائراتها المسيّرة للجيش الأوكراني في إطار اتفاقيات التعاون العسكري الاستراتيجي مع الرئيس فولوديمير زيلينسكي، الصديق الحميم للرئيس إردوغان، الَّذي أعلن غير مرة استنكاره “غزو روسيا لأوكرانيا وضمّ شبه جزيرة القرم إليها”.
تركيا التي تستورد حوالى 65% من القمح (جورجيا وأرمينيا وأذربيجان من بين 85-99%) الّذي تستورده من الخارج من روسيا، وحوالى 15% من أوكرانيا، تريد لنجاحها في موضوع الممرات أن يساعدها على إقناع واشنطن والعواصم الغربية الحليفة بأهمية دورها الإقليمي والدولي، بعد أن تزعزعت ثقة هذه العواصم بها لأسباب عديدة.
ويريد الرئيس إردوغان أن تضمن له عودة الثقة هذه دعماً أميركياً وأوروبياً، وحتى روسياً، في مشاريعه ومخططاته الأخرى، وبشكل خاص في سوريا وليبيا والعراق، وحتى قبرص، حيث ما زالت المساعي مستمرة مع “تل أبيب”، وعبر الحوار الساخن، لنقل الغاز الإسرائيلي والقبرصي، وحتى المصري، بالأنابيب إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا.
كل ذلك في مقابل اعتراف أميركي وأوروبي للرئيس التركي بدور أكبر في المناطق المذكورة، وخصوصاً سوريا، التي يسعى لترسيخ “مناطقه الآمنة” في شمالها، على الرغم من كل البيانات والتصريحات والمواقف الروسية والإيرانية التي تعترض على ذلك.
وقد كان ذلك واضحاً في قمة طهران، إذ قال إردوغان بعد يوم من عودته من القمة “إنه لم يتفق مع الرئيسين بوتين ورئيسي على العديد من القضايا التي تمت مناقشتها”، واستمر في أحاديثه التقليدية عن بناء بيوت في إدلب وجوارها لمليون من اللاجئين السوريين الَّذين سيعودون إلى سوريا، وهو ما عدّه البعض محاولةً منه لخلق حاضنة شعبية له ولأفكاره العقائدية، بالتنسيق مع قوى المعارضة السورية وفصائلها التي يدعمها في 9% من الأراضي التي ينتشر فيها الجيش التركي.
هذا الأمر أشار إليه آيهان آوغان، مستشار إردوغان، بعد قمة طهران، إذ قال: “يعيش في إدلب 4 ملايين سوري بحماية تركيا. وفي المناطق الآمنة التركية، يعيش مليونا سوري. وفي الداخل التركي، يوجد 3.7 مليون سوري. لذلك، تركيا تملك الحق في تقرير مصير سوريا أكثر من عائلة الأسد. من هنا، ما لم تؤخذ مخاوف تركيا الأمنية بعين الاعتبار، وقام البعض باستفزازنا، فإنَّ تركيا ستقيم شريطاً آمناً يمتدّ من حلب وحتى الموصل”.
لا شك في أن أقوال المستشار تتطابق مع عدد من تصريحات الرئيس إردوغان ومواقفه منذ بداية ما يُسمى بـ”الربيع العربي” فيما يتعلّق بسوريا. ويبدو واضحاً أنها كانت، وستبقى، أهم موضوع في مجمل سياساته داخلياً وخارجياً مع استمرار التناقضات الإقليمية والدولية، وأهمها استمرار التآمر العربي الذي يعتقد أنه يصب في مصلحته.
وفي هذه الحالة، ما على إردوغان إلا أن يواجه أحزاب المعارضة وقواها التي باتت تحرجه في هذا الموضوع، وبشكل خاص قضية اللاجئين السوريين، وهو لا يريد أن يتخلّى عنهم لحساباته الخاصة الداخلية والخارجية، في الوقت الذي يتوقع الجميع أن تصعّد المعارضة حملتها ضده في هذا الموضوع.
وفي هذا السياق، أعلن زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو (السبت) خطته لإعادة اللاجئين إلى بلادهم، وذلك عبر “حوار مباشر وشامل مع الدولة السورية، وإعادة فتح السفارات في دمشق وأنقرة، والاتفاق مع الحكومة السورية على آلية عملية لإعادة السوريين إلى بيوتهم بضمانات تركية وسورية وأممية، مع خطة شاملة مدعومة من الاتحاد الأوروبي لإعادة إعمار ما دمرته الحرب، على أن يساهم المقاولون الأتراك في هذه المشاريع”.
ولم تغِب عن الأنظار محاولات بعض الأوساط القومية العنصرية، وربما بدخول “تل أبيب” على الخطّ، لاستغلال قضية اللاجئين وشنّ هجوم سافر على العرب من منطلقات قومية عنصرية وتاريخية، وحتى دينية.
ويبقى السؤال الأهم: إلى متى سيستمرّ إردوغان في سياساته المتناقضة على الصعيدين الداخلي والخارجي، وهي التي أثبتت فشله عندما اضطرّ إلى مصالحة “تل أبيب” والرياض وأبو ظبي، بعد أن قال عنها وعن حكامها الكثير والكثير، ولكن من دون أن يفكر في مصالحة الرئيس الأسد، لأنه يعتقد أن مثل هذه المصالحة يعني اعترافه بالهزيمة، وهو ما لن يتقبله بسهولة، وخصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات التي لا شك في أنها ستشهد حملات دعائية عنيفة جداً، ما دام سينطلق من مقولات قومية ودينية وطائفية في حال إعلان زعيم حزب الشعب الجمهوري (وهو علوي) ترشيح نفسه إلى انتخابات الرئاسة، بدعم من أحزاب تحالف الأمة الستة، وهو ما سيضمن انتصاره (هذا ما تقوله استطلاعات الرأي) الذي سيستنفر إردوغان كل إمكانياته وإمكانيات الدولة داخلياً وخارجياً لمنعه، مهما كلفه وكلّف ذلك تركيا!
ميدل إيست أونلاين