من قتل ‘إشراق’ كازبلانكا الجميلة المتمردة؟
ينسج الكاتب الكونغولي إن كولي جان بوفان أحداث روايته “فتاة كازبلانكا” بمهارة انطلاقًا من جريمة ليفتح أبواب مدينة مترامية الأطراف، حيث أحياء الطبقة العاملة الفقيرة التي تعد مأوى المهاجرين ويشكل معالمها الفساد والتكدس السكاني والوضع الهش للمهاجرين والعنف والإحباط الجنسي، الذي يتصاعد حين تهب رياح الصحراء، هذه الرياح الجنوبية التي يقال إنها تدفع إلى الجنون، وهنا نعيش تجليات الواقع الصعبة داخل نسيج يعمق رؤية ملامح وأبعاد الكثير من الإشكاليات الاجتماعية والسياسية، فانطلاقا من الحاضر نذهب إلى الماضي ثم نرد للمستقبل في دائرة زمنية متصلة وشاملة وشائكة.
يبدأ كل شيء عندما يتم العثور على الفتاة الجميلة “إشراق” مقتولة بجرح غائر في الرقبة والصدر أحدث قطعا في ملابسها المكونة من عباءة سوداء مطرزة بخيوط ذهبية، وذلك في حي “الطليان” الشعبي وأفل درجات شارع “الشاعر عدنان” في الدار البيضاء:
“ماتت “إشراق”!
هز الصراخ حي “درب الطليان”.
رغب سيسيه تشيمنجا”في أن يكون أول من يزف الخبر إلى “مختار دواوي”. لم يبد على الأخير الاندهاش لدى سماعه الخبر. قال في اقتضاب: اتبعني”.
كانت “إشراق” مطمع الجميع لكونها جميلة جمالا يكاد يدينها “كل شيء لدى إشراق أكثر من اللازم، ولكن كلمة أكثر هنا توحي بالكثرة المحسوبة، والعظمة الجنونية، والسخاء الذي يبعث على الطمأنينة. كانت مؤخرتها الكبيرة أسفل خصرها النحيل تتحرك بدقة فائقة، كذلك الأجرام السماوية التي تشكل الكواكب في السماء الواسعة المرصعة بالنجوم فوقنا”، شفاهها نفس ظلال الرمان، العيون اللوزية، الأنف المستقيمة والمنحنيات اللينة. لكنها كانت أيضًا متوحشة جدًا ومتمردة جدًا، الأمر الذي جعلها غير قابلة لأن تكون فريسة. وزاد من مكانتها كونها ابنة “زهيرة” التي يتهمونها بالمس والجنون.
تتشكل أحداث الرواية من دائرة شخصيات رئيسية تحلقت حول “إشراق” حية وجثة، حيث يطال التحقيق في مقتلها جميع شخصيات الرواية داخل الحي وخارجه، بدءا بشخصية “سيسيه” الذي أبلغ عن مقتلها، والمحقق/ العميد مختار داوودي، نور الدين كراج، وزهيرة الأم، وأحمد شرقاوي وزوجته فريدة عزوز، وجميعهم في دائرة الاشتباه ما عدا الأم، ولكن هذا لا ينفي تورطها بشكل غير مباشر.
“سيسيه” المشتبه به الأول والذي قبض عليه فور إبلاغه عن جثة إشراق، هارب من التوتر السياسي والحرب في الكونغو ـ كينشاسا، تم الاحتيال عليه من قبل مهربين، ركب القارب على أمل الوصول إلى فرنسا، لكن تلك الحرارة التي لفحته عندما نزل من القارب لم تشبه أي شيء فرنسي تخيله في حياته.. كانت تلك الحرارة تأكيدًا له على أنه لا يزال في أفريقيا، تحديدًا في المغرب في كازابلانكا. مهنته هي الغواية الإلكترونية حيث يقيم علاقات غرامية عبر الإنترنت مع فتيات وسيدات أوروبيات مستعينا بالصورة النمطية السادة عن فقر إفريقيا المدقع واللعب على عقدة الذنب الخالدة لدى أوروبا الاستعمارية، ويجني بعض اليوروهات “إنه يجيد مغازلة الشقراروات اللاتي يتقن إلى الحب، صغيرات أو عجائز، أمرا يجيده، ويعتبره نشاطا ذا منفعة عامة” بعدما ضعُفَ أمله في أن تتزوجه إحداهن وتسهل له الهجرة إلى أوروبا في شكل شرعي، بما أنه لا يرغب في الوصول إلى هدفه ذاك من طريق قارب غير شرعي، لأنه لا يجيد السباحة.
على متن حافلة، يلتقي “سيسيه” بـ “إشراق”.. فتاة تجسد كل ما قد يتخيله أحدهم عندما يسمع عن سحر الشرق.. يحيطها الغموض وتربك جميع مَن يعرفونها. يقنعها بالعمل معه لاصطياد الرجال وابتزازهم بالطريقة ذاتها التي يبتز بها النساء الأوربيات، تقبل “إشراق” فهي بحاجة إلى المال، والصحة العقلية لأمها زهيرة تتطلب رعاية باهظة الثمن. وهكذا سارت الأمور على ما يرام لـ “سيسيه”، كون إشراق تتمتع بمزيج من الجمال والذكاء والمزاج المشاكس.
العميد داوودي رجل في الخمسين من عمره يرى أنه لم يعد لديه وقت ليضيعه، وأنه يستحق ما هو أكثر من مجرد قسم شرطة صغير في حي شعبي. بذل كل ما بوسعه لكي ينتقل إلى حي يسكنه الأغنياء، بدلا من البقاء في حي شعبي ليس لدى سكانه ما يقدمونه. يتسأل “ما الجدوى من اعتقالهم إذا لم يكونوا يستطيعون دفع الرشوة المطلوبة؟ إلا أن الأمور تغيرت بعدها، ولاحت في الأفق تحولات كبرى؛ سمع كالجميع عن استثمارات ضخمة مرتقبة في الحي الفقيرعلى يد فريدة عزوز وبالتالي طَمُح لنيل نصيب منها، لكن إشراق التي فشل في جعلها إحدى محظياتهوالتي سبته ذات يوم تقف حائلا ضد هذا الاستثمار.
أحمد الشرقاوي مدير مسرح “ساحة المبدعين” الممثل السابق والمخرج المسرحي والعشيق السابق لزهيرة والدة إشراق. يتعلق الشرقاوي بإشراق ويحميها عندما يستطيع ذلك. ربطت بينهما علاقة مودة حيث يقتنع أنها من لحمه ودمه “وفرضت هذه القناعة بشكل غريزي وغير عقلاني”، مما يثير ريب وشك ثم غضب زوجته فريدة عزوز.
فريدة عزوز زوجة الشرقاوي سيدة أعمال جميلة وثرية وذكية، لديها هدف واحد فقط: أن تصبح أكثر ثراءً وثراءً. للقيام بذلك تعتمد على الاستثمارات العقارية المجنونة التي تحاول تحويل الدار البيضاء تدريجياً إلى مدينة ضخمة فوضوية. تسعى للحصول على عقارات تملكها في أحياء درب الطليان بطرد سكانها من المواطنين والمهاجرين وذلك لبيعها لرجل أعمال سعودي ثري. لكن السكان يرفضون التفريط في منازلهم، يقاومون كل شيء، ولا يغريهم المال رغم فقرهم. يقع في غرامها القواد نور الدين كروجي الذي يدير ملهى ليليا ويرقب عن كثب حقدها وغيرتها من علاقة زوجها بـ “إشراق” واهمال لها بسببها.
زهيرة والدة اشراق عرافة وصانعة تعاويذ لجلب المال والحب والرئاسة تتعامل مع الأثرياء والفقراء، تخفي هوية والد إشراق، شهدت حياتها الكثير من الرجال العشاق من بينهم المخرج المسرحي أحمد الشرقاوي الذي يصفها بأنها امرأة يصعب كبح جماحها، تعاني من مرض السكري، وتتولى “إشراق” إعالتها.
هل قام المهاجر غير الشرعي سيسيه بقتل “إشراق”، أم أن الطغمة الفاسدة استخدمته كغطاء؟ ما الدور الذي لعبه العاشق السابق لوالدة إشراق؟ وهل قامت زوجته فريدة بالتحريض عليها أم أن حبيبها وشريكها القواد نور الدين كروجي قام بهذه المهمة ـ قتل إشراق ـ عربون محبة لفريدة؟ أم أن العميد الشرقاوي دفع أمر بقتلها ردا على وقاحتها معه، ودعما لفريدة وفريقها في مشروعها الاستثماري في الحي ومن ثم لم يحقق في مقتلها بجدية؟..
ربما نجد الإجابة لدى سيسيه حيث قال “من جانبه، لم يبدُ على “داوودي” أنه وصل إلى أي خيط يقوده إلى القاتل المحتمل، فلم يجد أي مشتبه به حتى تلك اللحظة، ولا تزال كافة الاحتمالات قائمة. صحيح أن طابع صديقته المتمرد كان يثير حنق العديدين، ولكن لن يصل الأمر إلى القتل، كما أن عدم اهتمام العميد الكافي بالتحقيق في الواقعة يثير لديه الكثير من التساؤلات، إذ أن إجاباته على استفسارات “سيسيه” فضفاضة للغاية، في حين أنه كان يعرف الضحية جيدًا كالجميع.بدأ “سيسيه” يتساءل عن العلاقة التي كانت تربط الشرطي بـ”إشراق”، ولم يكن يعلم سوى ما أخبرته به “إشراق” قبل مقتلها: “إنه خنزير، لا يرقى أن يكون كلبًا حتى!”، هكذا وصفته. كانت تكرهه، بل وتحتقره إلى أبعد حد. علما[1] أن الشرطي اعتقلها في إحدى الليالي، وأن أمرًا ما حدث في الزنزانة التي احتجزها بها، ولا أحد ينعت شرطيًّا بالخنزير لمجرد أنه اعتقله، لا بد أنهما يخفيان سرًّا ما. يعرف أنه رجل بلا ضمير، ولكن هل يمكن أن يقتل فتاة كـ”إشراق” لإسكاتها؟ لماذا؟ أمن باب الكبرياء؟ ربما؛ كان “مختار داوودي” قادرًا على التخلص من أي شخصٍ في سبيل الـ”بيزنس”، ولكن فتاة كـ”إشراق” لا يمكن أن تُقتَل إلا بدافع العشق”.
أما أن الاجابة على سؤال مقتل إشراق في مواجهة الأم زهيرة للعميد داوودي والعواد في قم الشرطة.. وهو كالتالي:
جلست “زهيرة” أمام “مختار داوودي” بعد أن استدعاها ليطلعها على نتائج التحقيق حول مقتل ابنتها، لكنها لم تعد تسمع شيئًا مما يقول، فقد دخل عقلها في حالة غليان، وتساءلت: لم يصر هذا الرجل على مواصلة حديثه بينما تعجز عن سماعه؟ حين تنبهت إلى هذا الصمت المطبق، بدا وكأن سمعها يعود إليها تدريجيًّا، والتقطت أذنها صوتًا أشبه بالهمهمة يعلن لها أن التحقيقات، بعد بحث مضنٍ، توصلت إلى أن موت ابنتها كان قضاء وقدرًا، إذ تواجدت” إشراق” في المكان الخطأ في الوقت الخطأ وتعرضت لحادث أليم. في الجزء الأول من حديثه ذكر الشرطي شيئًا عن عاصفة رملية ومباراة بين”الرجاء” و”الوداد”، وعمود مائل وكابل مقطوع، وهذا الكرباج الذي يقطع حناجر النساء. اختلطت الأمور في رأس “زهيرة“.
–يجب أن تتقبلي الأمر يا حاجة، حوادث كهذه دائمًا ما تحدث.
صاحت “زهيرة” في غضب:
– أتقبل؟ أتقبل ماذا؟
كان ترديد كلمة “حادث” يفوق احتمالها.
انتفضت من مكانها وأخذت تصيح بكل قوتها قائلة:
– قتلتم” إشراق”! قتلتموني! ولكن انظر، أنا لم أمت بعد. اقتلني إذا كنت تملك الشجاعة. جبان! جميعكم جبناء! هيا اقتلني، ماذا تنتظر؟
جُنَّ جنون “زهيرة”، وبدأت تشد ملابسها وهي تشتم وتلعن “داوودي” وكل رجال العالم، والآباء والإخوة والأعمام والأخوال الذين خذلوها وتقاعسوا عن حمايتها. خرج الأمر تمامًا عن سيطرة العميد، فوقف هو الآخر يصيح مناديًا رجاله ليلقوا تلك المجنونة خارجًا. فُتِح الباب ودخل أربعة رجال، من بينهم “شكري“.
– أيجب أن تكونوا أربعة في كل مرة؟ تسعة وعشرين عامًا! تسعة وعشرين عامًا ولا أزال حية! قتلتم ابنتي! أتت إلى العالم لتموت في تلك الليلة. كانت النور الوحيد الذي يضيء حياتي وها قد حرمتموني منه.
كانت “زهيرة” تبكي كالطفلة.
حاول الشرطيون إخضاعها بكل ما أوتوا من قوة، ولكنهم واجهوا صعوبة شديدة بسبب بدانتها وثورتها الشديدة. سقطت قبعة “شكري” أرضًا. كانت تقاوم وتحاول أن تطرح نفسها أرضًا، فاضطر الرجال إلى حملها كالجثة الهامدة، أو كالجسد المحتضر الذي ما زالت أعضاؤه تنتفض.
صاحت “زهيرة” قائلة:
– هيا، اقتلوني! اقتلوني كما فعل العواد في تلك الليلة. لعنة الله عليك أيها العواد! ملعون أنت في كل كتاب!
ثم شرعت المجنونة في الغناء:
“لانا أدّْ الشوق وليالي الشوق ولا قلبي أدّْ عذابه، عذابه طول عمري باقول…”
رددت “زهيرة” كلمات أغنية “سيرة الحب”، وهي تحاول انتزاع ملابسها والتخلص من قبضة الرجال، تلك الأغنية التي كانت تأسرها فيما مضى، والتي ساهمت في حفر قبرها في فناء بالقرب من “باب مراكش”، ومن يومها والقبر ينتظر جثتها التي لا تأتي أبدًا. توقف “داوودي” عن الصياح، وهوى جالسًا على مقعده بوجه شاحب بعد أن سمع ما قالته “زهيرة”، وأخذ يفكر مليًّا، خاصةً في السر المحيط بمولد “إشراق” وهوية من زرع نطفته في رحم أمها.
أثناء مقاومتها، رأى وشمًا على شكل قمر وهلالين يغطي كتفها، وبرزت أمام عينيه فجأة ذكرى فكه الذي انغرس في وشم ولحم فتاة مجهولة.
غادر الجميع، ووجد “داوودي” نفسه أمام ذلك الشرطي الشاب، الذي كان يتقن العزف على العود منذ تسعة وعشرين عامًا، وكانت براعته تجذب الجميلات إلى حرَس مبنًى حكومي كتعويذة لا تُقهَر.
“لعنة الله عليك أيها العوَّاد! أيها العوَّاد”، ظلت الجملة ترن في رأسه من وراء الجدران، كحكم تتردد أصداؤه في أرجاء المحكمة. تأكد “مختار داوودي” أن الألم الذي يكوي روحه كالجمر الملتهب لن يتركه أبدًا. أدرك الآن أن النيران التي بدأت تحرق جسده بالفعل – وكأنها من عمل كائناتٍ شيطانية -لن تلتهمه بالكامل، وهكذا قد تدوم إلى أبد الآبدين…
أخيرا يذكر أن الروائي إن كولي چان بوفان وُلد في مقاطعة الإكوادور بالكونغو عام 1954.غادر الكونغو عام 1960 متجهًا إلى بلجيكا. درس الإدارة والاتصالات في باريس ثم عاد ليستقر بـ”كينشاسا” وعمل في مجال الإعلانات وأسس دار نشر عام 1991، بإسم منشورات .Exocet ثم غادر البلاد بشكل دائم عام 1993 وعاش في بروكسل. نشر روايته الأولى “قصة للأطفال” عام 1996 وحصل على الجائزة البلجيكية الأدبية الكبرى. كما حاز كتابه “الرياضيات الكونغولية” بالجائزة الأدبية الكبرى لأفريقيا السوداء عام 2009.