لا أعرف، لماذا ضحكت أمي على هذا النحو. نعم ضحكت من جوارحها، فبانت أسنانها البيضاء، وشعّ فرح من عينيها الزرقاوين ، وارتمت خصلة شعر كستنائي على وجهها، ثم لملمت ضحكتها، وقالت :
ــ لا أصدق أنك تتحدث عن المدينة !
وهمستْ في أذني: “أنت تتحدث عن ابنة الجيران شام! ” ..
لقد سمعتني أمي، وهي تقدم الشاي، وأنا أقرأ لصديقي الذي يزورني عن”شام”من ورقة كانت بيدي !..
كنت أجمع على الطاولة نحو عشرة دفاتر تحتوي خواطري، تحتضنها مغلفات جلدية ملونة مازلت أحتفظ بها إلى اليوم، وفي واحدة من هذه الدفاتر كلمات صادقة مني وأنا شاب صغير يكتب عن “شام”، ولا يعرف أن أمه تقف له بالمرصاد، لا لتؤنبه، ولكن لتكتشف مايخفيه !
كانت “شام” في الصف الحادي عشر، وكانت أنوثتها تسحرني ويسحرني فيها أيضا أناقتها، فملابس المدرسة الخاكية نظيفة مكوية، تمر أمامي، فيفوح منها عطر خفيف، وكانت “شام” تقول لي عندما تصادفني : الحادي عشر صعب كتير!
أهز رأسي كالواثق بنفسه لأنني كنت قد أصبحت في الثانوية وتجاوزتها بعام دراسي، لكن “شام” لم تكن تقصد ذلك أبدا. كانت تقصد منع جارها الفتى عنها!
وقبل سنوات رأيتها…
كانت “شام” ترتدي بنطالا أبيض وترسم ضحكة من ياسمين على وجهها .. لم تكن محنية الظهر، ولا تجعّد وجهها، راقبتها جيدا، ثم سارعت لأكتب على ورقة أحملها دائما في جيبي : “شام تعود كما كانت !!” ، ولم أقل لها شيئا لأن عيونها قابلتني بلا مبالاة .. بلا مبالاة تماما !
عادت ضحكة أمي ، هاجمتني ضحكتها وأسنانها البيضاء وخصلة شعرها الكستنائي وفرح عينيها الزرقاوين .. سألتني : أتبحث عنها ؟!
كانت “شام” مدينة من ياقوت. لا أحد ممن يكتبون كلمة “الياقوت” في نصوصهم شاهد الياقوت أو لمسه بأصابعه إلا قلة، ومع ذلك لايوجد كاتب إلا ويحكي عن الياقوت !
أما أنا، فأعرف الياقوت أكثر منهم، إذ لايمكن لكل مالكي الياقوت في العالم أن يعرفوا أهمية الياقوت إلا عندما يعرفون “شام” ..
و”شام” … ياعيني على “شام” أذهب إليها بين يوم وآخر، و”شام” هذه الأيام لاتحب اللون “الخاكي” لأنه لون الحرب، تتزين كمفردات حكاية يرويها ساحر، لاتجد في ملابسها التي ترتديها لونا خاكيا ، لأن من طبيعتها أن تذهب كل صباح في رحلة لاتنتهي من تفتح الياسمين الأبيض إلى صخب الورد الجوري الأحمر!
عندما هاجمني مرض طارئ خفتْ، خفتُ أن أتوقف عن الذهاب إليها . وهذا يعني أنني لن أستطيع بعدها أن أرى “شام”..
ياويلي.. أيمكن أن يحصل هذا؟!
حسبتُ عمري، جمعت وطرحت، فقد تجاوزتُ الستين سنة، لم أصدق، هناك عشر سنوات ليست لي، عشر سنوات ضاعت في سجن ليس لي، ولو لم تضعْ .
كنت سأذهب إلى “شام” وأسرقها من أهلها . كنت سأكتب اسمها على جدران المدينة ، وعندها ستأتي أمي وأسنانها البيضاء تشع جمالا وقد كشفت عن شعرها الكستنائي فصار أبيض أبيض كثلج آذار .. تماما كما ودعتها عندما فارقت الروح على يديْ .. عندها ، ستقول لي، وقد ذبلتْ عيناها الزرقاوان وراح منهما الفرح :
“هيه .. هيه .. أيها المخادع .. أنت تكتب عن ابنة الجيران “شام” ..”
فأركض في الحارات القديمة أركض فرحا بصوت أمي، وخائفا من عمري، أحسّ أن السنوات العشر ينبغي أن تعود لي .. لماذا أخذوها ؟
لابد أن أستعيدها ..
أحسست بأياد كثيرة تمسكني بقوة، وتصرخ في وجهي :
ــ لماذا تكتب على الجدران أيها المجنون؟!