
تعاني وسائل التواصل الاجتماعيّ والفضاء الإلكترونيّ بتسمياته وألوانه المختلفة من ظاهرة انتشار الشتيمة واستعراض عضلات الألسنة بأبشع صورها، ما يسهم في سكب مزيدٍ من السموم القاتلة في خطاب الكراهية الآخذ بالتمدّد في أعماق المجتمع السوريّ. والمؤسف أنّ هذه الظاهرة تصدر أحياناً عن فئةٍ تدّعي العلم والثقافة والتربية، فيما تاريخها القريب والبعيد حافل بالازدواجيّة والنفاق والانتهازيّة، ومحاولات التقرّب من البلاط، والأمثلة على ذلك كثيرة.
إنّ الواقع لا يحتمل مزيداً من التخريب والتهشيم والإقصاء، ولا مزيداً من التصفية المعنويّة، خصوصاً من أولئك الذين يُفترض أن يكونوا الرافعة الأساسيّة في البناء والدعوة إلى كلمةٍ سواء، قائمةٍ على التشاركيّة والانتماء والعدالة في الحقوق والواجبات.
وفي زمن تسيّد “السوشيال ميديا” وطغيانها على كل شيء، بعد التراجع الكبير لدور المدارس والجامعات ودور الثقافة والعبادة، والانحدار المريع عند من يُفترض أن يكونوا المدافعين عن الحقّ والحقيقة، تبدو الحاجة ماسّةً إلى تكاتف من بقي لديهم بقيّة من وعي وحرص على البناء والتماسك بعيداً عن الغايات الدنيئة والمطامع الرخيصة.
لقد غدت وسائل التواصل الاجتماعيّ اليوم صاحبة الدور الأخطر بسبب السوء المخيّم على استعمالاتها، بل تحوّلت إلى وسيلة للشهرة والنجوميّة من قبل أشخاص امتهنوا الخطاب الفتنويّ التحريضيّ، أو آخرين راقهم الأذى فراحوا يتدرّجون في سلّم الاعتداء من القول إلى الفعل، وكأنّهم يتدرّبون على الجريمة الكبرى.
إنّ ما نشهده من ضجيج وصخب وفلتانٍ أخلاقيّ وإنسانيّ في مجتمعاتنا وبين نخبنا يؤكّد وعورة الطريق التي يمكن أن نسلكها مستقبلاً، بعد أن تمّ تفخيخها بالألغام والمتفجّرات بكلّ أشكالها المدمّرة والناسفة للوعي وللعلاقات الإنسانيّة القائمة على المحبّة والتآخي.
لقد نجحت هذه الجراثيم المجتمعيّة في التسلّل إلى الجسد المنهك، معلنةً بدء المراحل الأخيرة من النخر قبل أن تتمكّن الحقيقة من ارتداء سروالها، كما قال تشرشل: “الكذبة تنتشر في نصف العالم قبل أن تتمكّن الحقيقة من ارتداء سروالها”.
إنّ تفكّك الخطاب الثقافيّ، واستشراء الكراهية في الجوّ العام، لا يخدم سوى أعداء البلاد الذين يتسلّلون إلى الجغرافيا والوجدان معاً. أليس الأجدر بالسوريّين اليوم أن يوحّدوا كلمتهم دفاعاً عن ذاكرتهم وأرضهم في وجه كلّ تغلغلٍ صهيونيّ، معلنٍ كان أم خفيّ؟
لقد آن الأوان للتفكير بثورةٍ ثقافيّة ومعرفيّة هدفها الرئيس إحداث انقلابٍ في المنظومة التحريضيّة المنبعثة من وسائل التواصل الاجتماعيّ، ثورةٍ أساسها التركيز على الإنسان وحقوقه وكرامته في ظلّ دولة القانون والمؤسّسات، وعلى حماية التنوّع وتعزيز ثقافة الاختلاف وصونها، لاسيّما مع الازدياد الكبير في عدد المحرّضين الاستئصاليّين والفتنويّين على امتداد المساحات الشاسعة للعالم الافتراضيّ.
ففي مواجهة هذا التحدّي، لا يكفي الصراخ في وجه الكراهية، بل لا بدّ من بناء وعيٍ جمعيّ جديد، يُعيد للثقافة مكانتها كقوّة إصلاحٍ وسلام. المطلوب استعادة صوت العقل، وإحياء الدور الحقيقيّ للمؤسّسات الثقافيّة والتربويّة، وتفعيل التشريعات الرادعة لكلّ خطابٍ تحريضيّ أو إقصائيّ، مع فتح أفقٍ رحبٍ للحوار والتنوّع، لا للعنف والتخوين.
عندها فقط يمكن للحقيقة أن ترتدي سروالها بثقة، وأن يعود الفضاء الرقميّ ساحةً للّقاء لا للانقضاض، ولمحبة الإنسان لا لتمزيقه، فتستعيد الكلمة دورها في البناء لا في الهدم، ويستعيد الوطن مناعته في وجه كلّ سمٍّ يهدّد الأرض والمجتمع.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة



