منير مطاوع مستعيداً مصر الستينات بنهضتها وكبوتها
فاجأنا الكاتب والصحافي المصري منير مطاوع، في دخوله عالم الرواية، هذا العالم الذي أخذت مساحته تتمدد وتتعدد وفق الرؤى التعبيرية لكل كاتب ولكلّ حالم بصيغة روائية جديدة وحديثة. دخل منير مطاوع هذا العالم بعدما تجاوز عقده السابع، بعدما خبر الحياة وعاش فيها تجارب واسعة، هو الصحافي المتمكن، ابن مدرسة مجلة «صباح الخير» القاهرية المرموقة، والمتخرّج من أكاديمية الفنون الجميلة في القاهرة. إذاً ثمة تلازم وتكافل وتناسق رؤيوي واضح وبارز في كل هذه المجالات الجمالية التي ينتسب كل واحد منها، بطريقته الإستاتيكية والتعبيرية والأسلوبية الى الفن.
لذا لا غرابة من المفاجأة ذاتها، فثمة كتاب كبار دخلوا الفن والكتابة والإبداع عموماً في سنّ متأخرة، وهذا لا يضيرهم بشيء، مادام الصنيع الفني قادراً على مخاطبة الروح فينا، وإشعال لهب الإمتاع والفتنة بين جوانحنا، فالمهم هو المنجز الجمالي، كيف سيكون وكيف سيكتب؟ وهل سيحقق مراده الرغبوي في صناعة الفن؟ والمقصود هنا الخطاب الروائي ومدلوله الأنطولوجي في عوالم السرديات والمرويات التي تنوعت طرائق كتابتها الجديدة.
يقتحم منير مطاوع هذا العالم بجرأته والعدة التكنيكية المتوافرة لديه، وبالدينامية ذاتها، تلك التي عرفتها مصر، على يد الأساتذة الأوائل، إحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبدالله، ولهذا نجد في صنيع منير مطاوع الشيء الكثير منهم. مثل عبد القدوس نجده يميل الى استكشاف خوابي الحب ومطموراته ورفع الستار عن الخبيء خلف هذا العالم الجميل، بلغة سينمائية، شهية في تقديم المحتوى وما يدور في خيال سلطان الرسام، بطل روايته مع حبيباته أو عشيقاته السبع، بدءاً بجنّات جارته في المحلة، وأول موديل يرسمه في حياته، وصديقته ايضاً في كلية التربية الرياضية، كونها قريبة من كلية الفنون الجميلة التي يَدْرُس فيها، أيام التلمذة والسهر الجماعي والحب الشبيه بالزواج. ولكن لا زواج من شخص فنان يرسم الموديلات النسائية في مرسمه، ولديه علاقات واسعة، تبدأ بها وتنتهي بهدى.
سبع نساء يشكلن إطار الرواية التي تضمر مدولها الفني في نهاية لا تبتعد كثيراً عن اجواء الإمتاع والمؤانسة، في بعض محطاتها، أجواء التوتر الدرامي الذي كانت تتمتع به قصص وحكايات وسرود ومرويات وأبطال روايات فترة الستينات وما قبلها من القرن العشرين.
تحت أفق هذا المسعى، يمكن تصنيف رواية «سبع جنات» (منشورات روايات الهلال القاهرية)،على انها تنتمي إلى نمط العالم الواقعي البسيط ونسقه، إنما المشغول بعناية ودراية. وبمعنى آخر، هو المتمثل بواقع الطبقة الوسطى الذي كانت تعكسه تلك الروايات وطبيعة تفكيرها المهموم بعامل التغيير، بعيداً من تنظيرات ديكتاتورية البروليتاريا وطُرُق وسائلها النظرية والطوباوية الى حد ما. هذا ما نلمسه هنا في رواية «سبع جنات» من أحوال ومقامات ونوازع بعض شخصياته النسائية، حتى تفكيرهنّ وتفكيره هو ايضاً، ينحصر في العلاقات الغرامية والتواصل الإنساني عبر الحب والشغف والذوبان في الآخر. ذلك هو الواضح والمُتعيَّن في المشهد الذي يرسمه الراوي، وهو على سرير المرض، داخلاً في غيبوبة فجائية، الا انها ووفق الصيغة الدلالية والشفرة الرمزية لهذا العمل، تتحول الى عالم فيه نوع من التفكير والتأمل وإعمال الحس الوطني، في خلق عالم مغاير ومختلف، عالم جديد خال من الفساد والطغيان، ساع الى تحقيق الثورة بمفهومها السياسي ذات البعد الاجتماعي، لدى البطل سلطان. علماً أنه كان ضحية غيبوبة لم تكن سوى رمز يعكس غيبوبة الشعب المصري الطويلة، غير أنه حاول الإفاقة منها بعدما وقع ضحية سياسة الحكم الواحد والانفراد بالسلطة والقانون والدستور والشعب والدولة.
وهذا بالضبط ما كان يجسّده محمد عبد الحليم عبدالله، في بعض قصصه المحلية المطبوعة بطابع إنساني وفق معيار الفن العالي، ووفق التصور الواقعي، السحري، المندمج بالمتخيَّل والغرائبي، بغية تقديمها بحُلّة مغايرة للقارئ.
هنا استطاع منير مطاوع التجسير الجمالي بين عالمين عالم الحب والرغبة والشوق والنجوى، وعالم الحكاية الإنسانية، المصوغة وفق رؤية اسلوبية رمزية، بطلها الإنسان الشقي والحالم بعالم مختلف، وهي أفكار سلطان وحياته العملية، تأملاته الفكرية، مشاعره الإنسانية والنضالية، تجاربه الحياتية مع الأصدقاء والفن والرسم وعمله في تصميم المجلات، الى الانخراط باكراً في العمل السري، غير الحزبي، الداعم لفكرة التغيير والثورة، عالم نضال ستينات القرن المنصرم، أيام النكسة والحرب والخيانة، ايام عبد الحليم حافظ وجيل البيتنكس والميني جيب، والثورة الجنسية، أيام التظاهرات وتوزيع المنشورات والتنديد بالمحتل والغازي وضياع الحقوق العربية، أبرزها القضية الفلسطينية.
أما الثيمة الأهم فتتلخص في تأرجح بطل الرواية سلطان بين تيار الوعي واللا وعي، بين أن يكون منتمياً أو غير منتم على طريقة كولن ولسن، أو خاضعاً لتيار الشعور مع نسائه، أو فاقداً لتيار الشعور في حالة دخوله «الكوما» وغيابه التام عن الراهن، راهن عدم تحقيق الأحلام التي أخلص لها البطل سلطان أكثر ما أخلص للظروف، وفق تعبير الأرجنتيني العظيم بورخيس الذي قال يوماً : «أحاول أن أكون مخلصاً للأحلام وليس للظروف».
تظلّ شخصية سلطان، بطل الرواية، بكل ما تحمله شخصيته من سلبيات وإيجابيات، من أحلام وأنكسارات، من طموح وخيبات، هاربة من الواقع المحبط والمتداعي، واقع الهزيمة، وضياع المبادئ، وتكريس الخذلان بدلاً من التحدي والإصرار والمواصلة على اكمال الطريق، هل نستطيع أن نسمي ذلك المعادل الدلالي، أو التواؤم الموضوعي. هذا لأنّ الإغماء والدخول في «الكوما» ثم بزوغ الثورة المنتظرة، فالحب المهزوم أمام سبع نساء، وصراع اللاوعي معهنَّ، هو ما يؤدي لاحقاً الى خلق هذا المُعادل المشار اليه أعلاه، إذ ليس ممكناً أن يتحقق الحبّ مع سبع نساء دفعة واحدة، لأن الحب الحقيقي – والواقعي – لا يتجلّى الا في واحد، في الأحَدِيَّة والهُيام بالآخر، من أجل التماهي فيه لتكونه هو أيضاً.
لذا يتبدى الحلم المجهض ونكوصه كنوع من التسوية مع الغياب عن الوعي، وتلاشي الحب أمامه وغياب سلطان في دهاليز اللا وعي. من هنا لا يستقيم كل ذلك الا بانتفاضة الوعي وقيام الثورة الفكرية، وتحقيق المنجز المحلوم، وإعادة صياغة الحب بطريقة أخرى.
تُعدّ رواية «سبع جنات» وهي الأولى للكاتب منير مطاوع، رواية استيهامية في بعض فصولها، وطوراً استيحائية، تستوحي ظرف الماضي وزمانه، مستلهمة شيئاً من السيرة الذاتية لمنير مطاوع نفسه. ولكنها أيضاً عاشت بعض فصول المتخيَّل مع نسائه الحالمات بشخصية سلطان المُغوية والجذابة، وإذا وجدنا منير مطاوع قد جنح الى تكريس الطابع الرومنطيقي في معظم فصولها، فيعني أننا سنكون أمام عالم آخر ومختلف في روايته المقبلة «لا يمكن هذا أن يحدث»، وهي عمل يتخطى في نسقه الفني مساق «سبع جنات» ويُرسِّخ من دون تردّد تجربته الجديدة في مضمار الكتابة الروائية.
صحيفة الحياة اللندنية