مهدي السعيد وسرّديته السسوثقافية
مقدمة لكتاب (الجذور) “سيرة ذاتية”
الحلقة 3
ويقول مهدي السعيد إنه تعرّف على حسن عوينه بعد نشر صوره في وقت لاحق.
ويذكر أيضاً أن الطبيب الشيوعي فاروق برتو افتتح عيادة له، وهو شقيق بشرى برتو وهي قيادية أيضاً في الحزب الشيوعي، وزوجة رحيم عجينة القيادي في الحزب أيضاً، حيث كان قد خصّص أحد أيام الأسبوع مجاناً لعلاج المراجعين، ولاسيّما من الفقراء وضعيفي الحال، ويقول جرت محاولات لدهم عيادته من جانب شرطة التحقيقات الجنائية لأن صيته كان قد ذاع وعرف الناس إنه ينتمي إلى الحزب الشيوعي، ولذلك انبروا للدفاع عنه تلقائياً.
ومن الشخصيات التي يتناولها أيضاً عطشان ضيول (الإيزرجاوي) الذي كان مسؤولاً في الخط العسكري للحزب الشيوعي، وقد سكن مع والدته بعد انتقاله من الناصرية في محلّة الدوريين، وإنه أصبح بعد ثورة 14 تموز (يوليو) مساعداً لآمر المقاومة الشعبية طه البامرني، وكان من دعاة الإستيلاء على السلطة أيام حكم عبد الكريم قاسم، ويقول أن ثابت حبيب العاني وعامر عبدالله وآخرين كانوا ضدّ هذا التوجه، وقد فتح هذا الموضوع مع العاني في لندن مستذكراً الإيزرجاوي، كما سأل عنه آرا خاجادور في براغ.
ويروي السعيد نقلاً عن آرا خاجادور إن اللجنة المركزية حينها أبعدت سلام عادل إلى موسكو الذي كان يميل إلى استلام السلطة وإزاحة عبدالكريم قاسم، ويقول إن ذلك كان جزء من الصراع حول السلطة بين تيارين : الأول ممثلاً بمجموعة الأربعة : زكي خيري، عامر عبدالله، بهاء الدين نوري ومحمد حسين أبو العيس وإن كان الأخير أقرب إلى سلام عادل، لكنه احتسب على الجماعة المتكتلة حتى وإن لم يتفق معها فكرياً (وقد استشهد تحت التعذيب بعد انقلاب 8 شباط/فبراير/ 1963) و كان هؤلاء ضد توجّه سلام عادل وجمال الحيدري وعطشان ضيول، والأخيرأبعد إلى موسكو ومنعه ال KGB من الإتصال بالآخرين، ويروي قصته الدرامية حيث توفي في ألمانيا.
ثورة 14 تموز
يتحدث مهدي السعيد عن يوم ثورة 14 تموز وشعوره عند هدم تمثال الجنرال مود الذي قال حين احتل بغداد “جئنا محرّرين لا فاتحين”، ويذكر كيف هرب نوري السعيد ولجأ إلى بيت الإستربادي في الكاظمية، وكيف دخل هو ووالدته إلى بيت نوري السعيد. ثم يتناول كيف أسّس الشيوعيون التنظيمات سريعاً مثل الشبيبة الديمقراطية والمقاومة الشعبية.
ويستعيد مهدي السعيد أيام تموز والمهرجانات، وكيف صافح عبدالكريم قاسم وكذلك الملّا مصطفى البارزاني، ولكنه يتناول بمرارة الإنقسام الشعبي، ولاسيّما بين الشيوعيين والقوميين، خصوصاً بعد حركة الشواف ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في منطقة “رأس القرية” بشارع الرشيد، وكان من بين من شاركوا بها صدام حسين، وينشّط ذاكرته بحديثه مع د.تحسين معلّه، خصوصاً عن قضايا التعذيب في قصر النهاية.
ومن مظاهر اشتداد حالة الإحتقان الشعبي اغتيال الشيوعيين أحد الأشخاص وسحله في مدينة الكاظمية، وقد اتهم بها منذر أبو العيس الذي صدر الحكم بإعدامه، وقد تمّ تنفيذه بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963. ويشير إلى أن محلّة الدوريين كانت تعجّ بالخلافات. ويتوقف عند انقلاب البعثيين الأول الذي أطاح بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم وطارد الشيوعيين واعتقل الآلاف منهم وكيف جرت محاولة لإعتقال أخيه كاظم.
أول مهمة حزبية
وعن أول مهمة حزبية له كانت عشية حركة حسن سريع في 3 تموز (يوليو) العام 1963، وهو نائب عريف حاول قيادة انتفاضة مسلحة ضد حكم البعث الأول، لكنها فشلت واعتقل المشاركون فيها وحوكموا وأعدموا.
أما المهمة التي كلّف بها فهي كتابة بيانات بخط اليد على ورق الكاربون، وكان المسؤول عن المجموعة حسبما يقول “محمد كريم” الذي أعدم في حركة حسن سريع، لينتقل بعدها إلى عمل حزبي منظّم، وخصوصاً بعد انشقاق القيادة المركزية ويستعيد العلاقات في تلك الفترة، ويستذكر عدد من المسؤولين بينهم كاظم حبيب، وكيف ساهم عدد من الرفاق في إعادة التنظيم منهم: حسن أسد الشمري وصلاح زنكنة وحميد برتو ولؤي أبو التمّن وسعد الطائي وطه صفوك وكاتب السطور وآخرين، ويقول إنه تم تشكيل فرقة حزبية صدامية ويروي حادثة مقتل سامي مهدي الهاشمي في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية.
وكنت قد رويت في أكثر من مناسبة موضوع تصدّع علاقتي بالحزب بسبب هذه الحادثة وحوادث أخرى حدثت في كردستان لتعذيب شيوعيين على يد رفاقهم.
ويستعرض السعيد خلال هذه الفترة عدداً من الأحداث العامة والخاصة منها اعتقال شقيقه سعدي (المرة الأولى حين كان لا يزال في بغداد، ثم يذكر اعتقاله لمرّة ثانية حين غادر هو بغداد) وسفره بعد حصوله على زمالة دراسية، ليصل إلى محطته الجديدة “براغ”.
يقول عن براغ أنها مدينة الأحلام، لكن أحلامه كادت أن تطير لأن زمالته مُنحت إلى شخص آخر، وكان عليه الإنتظار لبضعة أشهر، وحصل الأمر كذلك مع رفيقه محمد الأسدي ريثما يتم قبولها بعد بضعة أشهر، ويتحدث عن معاناته خلال تلك الفترة وعلاقاته مع الطلبة مثل حسون الربيعي وعلاء صبيح وسلمان الحسن وفؤاد زلزلة، وعن مقهى سلافيا والعلاقة مع الملحقية الثقافية، ولاسيّما مع عبد الستار الدوري (الملحق الثقافي)، ويستذكر حادثة حصلت لعلي صالح السعدي الذي حضر حفلاً بمناسبة الذكرى الثانية لبيان 11 آذار (مارس) لعام 1970 وكان بصحبة السفير محسن دزئي، وكان من الحاضرين عبد الستار الدوري ومهدي الحافظ وموسى أسد وكاتب السطور الذي كان رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين وآخرين، وكان السعدي قد أطرب للمقامات البغدادية التي أدّاها علاء صبيح، وحاول مصافحته، ولكن الأخير امتنع عن ذلك وحين سأله لماذا؟ أجابه بأن يديك ملطّختان بالدماء وقد احتدّم الموقف، وحاول دزئي ورفاقنا احتواءه.
وبعد قبوله وانتقاله إلى مدينة أخرى لدراسة اللغة، ثم دراسته في كلية الزراعة، سلّط ضوءًا على حياة الطلبة والأجواء الاجتماعية السائدة وهي ذكرتني برواية “الجليد” لصنع الله إبراهيم التي كتبها عن فترة دراسته في موسكو (1973) وهي فترة مقاربة لما عاشه مهدي السعيد في براغ، وفي الرواية وأحداثها ثمة بحث عن الذات وعن المرأة وعن الجمال.
بين براغ وبراغ
ثم يتناول السعيد بعد ذلك المقطع الفاصل بين المرحلتين، أي بين براغ وبراغ، حين غادرها أول مرّة عائداً إلى العراق أدى خدمته العسكرية الإلزامية في أجواء من القلق والخوف الذي رافقه، وكيف تمكن من التخلص من استحقاقات خطرة، قد تؤدي بحياته، فكما هو معلوم كان العمل السياسي محرّماً في الجيش، كما إن الانتساب إلى حزب آخر غير حزب البعث قد يؤدي بصاحبه إلى الإعدام، وهي مشاعر عاشها الكاتب نفسه الذي التحق في فترة مقاربة لفترة السعيد لأداء الخدمة الإلزامية وكاد حبل المشنقة أن يلتف حول رقبته.
وفي غمرة ذلك لا ينسى أن يذكر بعض الطرائف، منها إنه حين كان خفراً كان من مسؤولياته “سجن المعسكر” وكيف طلب منه السجناء تنظيف السجن، وقد وافق على ذلك لأنه كان قذراً للغاية والرائحة الكريهة تنبعث منه، وكان قد نُصح بأن يكون يقظاً كي لا يهرب أحد السجناء واسمه “صدام” وكان متهماً بقتل أحد أبناء منطقته، وطلبوا منه مشاهدة التلفزيون وتعهدوا أمامه بعدم الهرب وفعلاً تم ذلك، وحين عادوا جميعهم افتقد إلى وجود صدام بينهم، وهكذا يقول “سيطر عليّ الخوف، ووقفت صامتاً أضع يدي على خدي وعيناي تتجهان إلى السماء”، ولكن بعد قليل ظهر صدام وكأنه جاء من وراء غمامة سوداء ودخل السجن، وفي اليوم التالي هرب الجندي “صدام” بعد أن استلم الخفارة أحد جنود الصف المكروهين كما يقول.
لقد عكست مذكرات مهدي السعيد، في بعض محطاتها حياة مسكوت عنها بما فيها من خفايا وعقد ومشاكل اقتصادية واجتماعية وثقافية في الإطار السياسي الذي عمل فيه أو في الدولة الاشتراكية التي عاش فيها نحو عقدين من الزمان، وهي تكشف جذور الانهيار اللاحق، دون إنكار الإيجابيات بالطبع مثل كفالة الدولة لحق التعليم وتكاليفه وتوفير مستلزماته من السكن والمنحة، إضافة إلى التأمين الصحي وغير ذلك، لكن هناك شعور بالإجحاف والغبن لدى فئات واسعة، ناهيك عن شحّ الحرّيات وانتهاك حقوق الإنسان، فضلاً عن غياب التعدّدية وعدم الإقرار بالتنوع وحرّية التعبير.
وقد كان لسيادة العقلية الستالينية البيروقراطية الأوامرية سبباً آخر في تراجع الأحزاب الشيوعية والماركسية، بل وجميع الأحزاب الشمولية بما فيها أحزاب الفرع في المشرق العربي، سواء من كان منها في السلطة أو من كان خارجها حتى وإن كان من ضحاياها.
وفي براغ يتحدث عن لقائه الأول بالجواهري ثم علاقته به، وخصوصاً عبر ابن شقيّقه رواء الجصاني الذي ربطته به علاقة وثيقة ومع عائلته أيضاً، ويذكر تحت عنوان لحظات مع المبدعين عن لقائه مع عبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ وعز الدين المناصرة وسميح القاسم الذي رافقه برحلة إلى برلين لحضور مهرجان للطلبة العراقيين وعن قيادته لخلية المثقفين التي ضمّت : مفيد الجزائري وحسين العامل وجيان (يحيى بابان) وقادر ديلان وغريب الكروي (أبو وجدان) وصبري كريم (أبو شيرين) وحمزة رجبو.
ويتناول بعض صداقاته في براغ لا سيّما مع موفق فتوحي وحميد برتو وفيصل اسماعيل وسميرة البياتي وحميد الدوري والعلاقة بين البعثيين والشيوعيين التي انتقلت من التحالف إلى العداء.
وعن حياته في لندن يقول كانت أولى العوائل العراقية الأولى التي تعرّف عليها هي عائلة يعقوب قوجمان “أبوسلام” الشيوعي العراقي العريق، وهو صديق رفيقة عادل مصري والد “سرود” الذي عمل معه في لجنة التنسيق الطلابية ويتحدث عن عمله في إذاعة كل العرب مع نجم عبد الكريم وعلاقته الوطيدة مع نبيل ياسين الذي كان قد عيّن رئيساً لتحرير جريدة “المؤتمر”، وكيف بدأ يتعرف على المعارضة العراقية بشخصياتها المختلفة.