موت الأخلاق والإنسان في «مرايا الجنرال»
تحمل رواية المغربي طارق بكاري الجديدة «مرايا الجنرال» (دار الآداب) فلسفة عدمية مع إقرارٍ بوجود إله يتحكم بمصائرنا. تبدأ الرواية من عام 1970 حين كان قاسم جلال قادماً من مارسيليا إلى الغرب العربي (مدينة ليكسوس) وحتى اختفائه عام 1996. اعتمد الكاتب تقنية تعدد الأصوات في رواية تنقسم إلى ثلاثة أجزاء هي «حالة عشق» و «طبول الحرب» و «خريف الجنرال»، والأجزاء إلى فصول، معنونة بشذرات من رسائل تركها أصحابها قبل انتحارهم، أو إعدامهم، أو موتهم مثل إسحق نيوتن، مارلين مونرو، لوركا، فرجينيا وولف… وكل فصل يتحدث بلسان صاحبه: قاسم جلال، جواهر، سيمون، ليلى، وهى تعج بتداخل الأزمنة من الأقدم إلى الأحدث والعكس.
تتحدث الرواية عن مير أو جنرال مدينة ليكسوس (قاسم جلال)، السفاح المهووس بالدماء، المرصع بكل أنواع الجنون والشذوذ النفسي. المغتصب والقاتل والجلاد، الممحوة من ذاكرة حياته الثلاثين عاماً الأولى من عمره، والذي يحاول استعادتها من خلال زياراته للطبيبة النفسية ليلى حداد.
نوغل في الرواية لنكتشف أن قاسم وقع في حب جواهر المسلمة، الغارقة حتى أذنيها في حب سيمون اليهودي الماركسي المتطرف الذي جرَّها إلى مستنقع السياسة الآسن، ليدفعا معاً الثمن في هيئة اعتقالات ونفي وتعذيب. يجري قاسم صوبها كمجنون فَقَد عقله. يحاصرها من كل اتجاه، حتى تقع في حبه وتخون سيمون، الذي نكتشف لاحقاً أنه خانها في وقت ما مع أزميرالدا، لنتيقن أن النضال والحب لا يجتمعان.
تُعرّي الرواية بطش الدولة الأمنية، ولعبة السياسة القذرة التي تعمد إلى طمس الحقائق وترسيخ الأكاذيب، كذلك تفضح زيف الحضارة التي تُسَخِّر جهودها في اختراعات مسلطة لهلاك الإنسان.
تنتقد الرواية الدوغمائية، وتساوي بين النظام وبين المناضلين السياسيين، فكل فريق يشيِّد من أوهامه أصناماً، كما تتحدث عن انفصال النخبة السياسية عن نبض الشارع. انها تفضح الشعوب المقهورة بطبعها والتي حينما تُسقِط صنماً تأتي بغيره، ثم تستكمل نومها. كذلك تسخر من الهيبيين الذين ظهروا في سبعينات القرن الماضي، والذين كانوا يحاربون الرأسمالية بالجنس والحشيش، لنصحو على حقيقة مفجعة وهو أنه لا شيء يقينيّ الثبوت، وأن العبث واللا منطق يحكمان الحياة.
نلاحظ هنا أن الشخوص تعاني يتماً شديداً. شخصيات العمل وحيدة بلا جذور. جواهر مثلاً هجرها أهلها بعدما عانوا من فضيحة حبها ليهودي، وسيمون تركه أهله ليهاجروا إلى إسرائيل بعدما أصبحت الحياة في الوطن لا تطاق، وقاسم جلال لا يذكر أهله نتيجة معاناته ثقباً في الذاكرة، وليلى تنطلق في بحث بلا جدوى عن أبويها البيولوجيين، بعدما اكتشفت أنّ من ربياها ليسا أبويها الحقيقيين.
بفضل علاج الدكتورة ليلى، أو ربما بإلحاح من صور لم تضمر وتأتي دوماً في هيئة أحلام، يستعيد قاسم شيئاً فشيئاً ذاكرته المطموسة، فنكتشف أنه ضحية تحوله إلى جلاد. مات أبواه أمام عينيه ميتة بشعة على يد الاحتلال الفرنسي وهو طفل صغير، بعدها يتم سياقته إلى تجربة أكثر بشاعة على يد طبيب نفسي فرنسي مجنون، يعمل على طمس ذاكرته من خلال إخضاع جسده الى الصدمات الكهربائية، واعتقاله رهن كرسي وحيداً لا يبرحه لشهور طويلة، ليتحول بعد ذلك إلى آلة تأتمر بأمره وتعتنق أفكاره.
هكذا كان جنرال المدينة السابق عليه، وكذلك سيكون من سيخلفه. آلات بشرية منزوعة العقل والعاطفة، فقط ماكينات مبرمجة على أفعال محددة سلفاً، شكل جديد من الجواسيس والعملاء، يد الغرب المطلوقة في المدن العربية لتخريبها من الداخل. نمط مبتكر من الاستعمار، مفتقداً شكله الكلاسيكي، من دون جيوش أو حروب، لكنه استعمار للعقول التى ستُخضِع الأرض، وتمنحها هدية مجانية للعدو الغازي.
بين روايته الأولى «نوميديا»، والثانية التي بين أيدينا، نقاط مشتركة، نستعرض منها الآتي: «الذاكرة». هي الذاكرة التي في غيابها عذاب، وفي حضورها عذاب مضاعف، والتي حينما يسعى الفرد المبطونة ذاكرته نحو إحيائها، يكون في واقع أمره ذاهباً نحو حتفه، مع التأكيد طوال الوقت أن الإنسان بلا ذاكرة، لا شيء. كذلك «الإنسان الحالي» وهو دائماً نتاج الطفل الذي كانه.
«الطبيب النفسي» وكيف يتحول الى وحش آدمي يدمّر مريضه بغية تسجيل نجاح شخصي. «بشاعات الاستعمار» ولا سيما عبر شكله غير التقليدي، «اليتم» بأشكاله المتعددة، «المدن العربية» وتساويها في التخلف والجهل، «زيف النخبة السياسية وتحديداً اليسار»، «الخطيئة» والنظر إليها على أنها المعلم الأول والأهم، من دون تجريمها، «الحتمية القدرية».
يفهم القارئ مغزى العنوان، حينما يفسره قاسم بقوله إن مع جوزفين (خبرته الجنسية الأولى) كان يتطلع إلى صورته وهو معها من خلال الشاشة المقابلة. كان يرى رغبته تتأجج ثم تخبو، وينكسر معها بسبب شذوذ سلوكها معه، بعدها بات يتلذذ برؤية نفسه يغتصب النساء في غرفته المبطنة كلها بالمرايا. كان يريد أن يتأكد كل مرة أنه هو الشخص نفسه وليس أحداً غيره «لي حالات لا يكون فيها أناي خلف مقود الجسد»، وربما كان يريد الانتقام من تلك التي كانت تقتل رغبته كلما نضجت.
تكشف الرواية المخططات الغربية للدول المغلوبة على فقرها وجهلها، فتوضح كيفية صناعة العميل، وسوقه إلى حيث يريدون، وكيف يتم التستر على بطشه بشعبه، ولكن حينما يحيد عن الخط المرسوم له، فيجب التخلص منه على الفور، والإتيان ببديل كان يتم تجهيزه مسبقاً. فنرى هنا قاسم، الذي حينما بدأ في استعادة ذاكرته، وكفّ عن كتابة التقارير ورفعها للكبار، كان الحل في ياسر، الجنرال الجديد.
في نهاية الرواية يصدمنا قاسم بتاريخ الجنون، بدموية أباطرة السياسة والعلم، سارداً كل بشاعات التجارب العلمية التي قامت على جثث فئران التجارب من الأطفال والسود، والتي حدثت في القرن الماضي خلال الحروب وبعدها، مؤكداً أن ما تعرض له من تجريب ليس الأول ولن يكون الأخير! على أن الشر طبيعة أصيلة في الإنسان، لا تجدي معها المثاليات والقيم الأخلاقية التي نضحك بها على أنفسنا طوال الوقت، وهو بعد آخر لتفسير عبارة نيتشه الشهيرة «موت الإله»، حينما قصد أن المثاليات والأخلاق المرتبطة بوجود الإله قد ماتت بالفعل لدى الإنسان.
صحيفة الحياة اللندنية