في كتابه «مشكلة المكان الفنّي»، يقول يوري لوتمان إنّ «الذات البشرية لا تكتمل داخل حدود ذاتها، لكنها تنبسط خارج هذه الحدود لتصبغ كل ما حولها بصبغتها، وتسقط على المكان قيَمها الحضارية». وفي رواية مكانها متخيَّل، وهي منطقة خاصّة بنصّ «أيام الشمس المشرقة» (دار العين ـــ 2023) لميرال الطحاوي، تضمّ من ضاق به المكان حيث مسقط الرأس، ليصل إلى تلك البلاد مهاجراً غير شرعي أو بأساليب مختلفة أخرى، ليحاول كما يقول لوتمان إكمال ما فقده من ذاته خارج حدودها الأولى، لا يسعنا إلا أن نطرح هذا السؤال: هل ستستطيع تلك النفس أن تصبغ ما حولها بصبغتها وتسقط قيمها الحضارية على المكان؟
يقول لوتمان أيضاً «هناك أماكن مرفوضة وأماكن مرغوب فيها، فكما أنّ البيئة تلفظ الإنسان أو تحتويه، فإن الإنسان، طبقاً لحاجاته، ينتعش في بعض الأماكن ويذبل في بعضها». من هذه الفكرة، تبدأ ملاحقة الشخصيات الروائية في «أيام الشمس المشرقة» وتبدأ معها ملاحقة التركيب المعقَّد الذي اعتمدته الروائية المصرية في علاقات الشخصيات بالمكان وببعضها، وبالزمان بشكل أقلّ تأثيراً.
يوهمك العنوان بأنّ الزمان والمكان سيتقاسمان الرمزية بالتساوي، فالأيام/ الزمان والشمس المشرقة/ المكان يظهران قبل البدء بالقراءة، لكن عندما تبدأ بالقراءة، تبدأ الشخصيات بالحضور القويّ، بعلاقاتها الإشكالية في ما بينها، وبين كلّ منها والمكان، «الشمس المشرقة» أو «الجنّة الأبدية» أو «تلّة سنام الجبل» وبعدها «آشفيلد» وغيرها، حيث يتم اجتياز الحدود من معظم الشخصيات قبل أن تعود إلى «الشمس المشرقة»… اجتياز الحدود الذي يُظهِر رمزية شخصية اللاجئ الذي ـــ منذ لحظة إعلانه لاجئاً ــــ يفقد قيمةً ما، لم يكن يدرك امتلاكها قبل لجوئه، فلا يعود تصنيفه من قبل الآخرين بوصفه إنساناً عاديّاً كما كان قبل اللجوء.
الشخصيات تعدّدت وتشعّبت حتى كادت أن تفقد الرابط بينها إن أنتَ أهملتَ النصّ ولم تقرأ خلال أوقات متقاربة. وعلى الرغم من أن شخصية «نِعم الخبّاز» كانت الأوسع حضوراً والأقوى تأثيراً، يبقى للشخصيات الأخرى الدور الذي أرادته لها الطحاوي بأن تؤدّيه. فابن نِعم الذي تبدأ الرواية بخبر انتحاره، نكتشف في ما بعد أمر ميوله الجنسية وعدم تقبّل المحيط له، حتى لا نسمّي «الشمس المشرقة» مجتمعاً، طالما أنها تجمّع اللاجئين، و«ميمي دودج» التي احتضنته، تموت أيضاً في نهاية الرواية.
شخصيات كثيرة تظهرها الرواية من أجل التركيز على تفاصيل حياة هؤلاء الهامشيين. وصولهم إلى «الشمس المشرقة» لم يكن طوق نجاة لهم، بل قد يكون بداية بؤسهم وكآبتهم وانحطاط حياتهم ومستقبلهم، فزوج نعم الذي هرب، وابنها الذي تبعه، هما من المسحوقين الذين حاولوا البحث عن فرصة للعيش بهدوء ليس إلّا، ويوسف الأزهري الأستاذ الجامعي الفاسد ليس إلا واحداً ممن نعرفهم ونعرف أخبارهم التي تظهر إلى العلن بين وقت وآخر، وزهرة وياسمين، الطالبتان اللتان وقعتا عن وعي أو عن جهل في شرك الفاسدين مثله، أيضاً هما من اللواتي نسمع عنهنّ ونعرفهنّ، وغيرها الكثير من الشخصيات التي ظهرت لترتبط بقضايا اجتماعية طرحتها الرواية ولم تسعَ إلى التوسّع في نقدها أو معالجتها، بل جعلت السياق يوصلها إلينا لنقوم نحن بذلك الدور.
شخصيّتان كانتا أساسيّتين أدّتا أدواراً توازي حضور «نعم الخباز» داخل المكان: «نجوى (الفتاة البسيطة التي ورثت كل جزء قبيح من والدَيها، تجتاز الحدود إلى آشفيلد، ثمّ تعود إلى الشمس المشرقة) هي نموذج للمرأة الريفية البسيطة التي لم تكن علاقتها بالمكان علاقة اللاجئة، ولم يؤدّ اللجوء دوره في تحديد معالم شخصيّتها وطموحها وخيباتها واستغلالها، بل هي النموذج الذي يمكن أن نسقطه على كثيرات من بنات الشرق، يولدن «ضلعاً قاصراً» ويتربّين على هذه الفكرة. ومهما حاولن، يبقين في نظر المجتمع الذكوريّ ملازمات تلك الصفة، مهما حاولت الواحدة منهنّ الدراسة والعمل وإثبات الذات، فكيف بمن لم يمتلكن المقوّمات الجسدية المؤهّلة لذلك!
شخصية أخرى أقلّ تأثيراً من نجوى، ولكنّ صفاتها تظهر في نهاية النصّ، تمهيداً للخاتمة التي تقضي بعودة قارب المهاجرين غير الشرعيين أدراجه، ورمي الأمّهات سبعة أطفال في المياه ليتمّ قبولهم لاجئين، وما يرافق ذلك من نقاش وتعدّد آراء حول الأمومة والقسوة والنجاة والمستقبل، هي شخصية «سليم النجّار»، الفلسطيني اللاجئ في «الشمس المشرقة»، وهو اللاجئ الأول بين جميع اللاجئين، لأنه المطرود من أرضه والموسوم بصفة لاجئ أباً عن جدّ، ولكن ليست صفة اللجوء التي جعلت من شخصيته إشكالية، بل قصصه الأسطورية التي تتغيّر بحسب الظروف والشخص الذي يحاوره، فهو مرةً مولود في مخيّم عين الحلوة، وقد شهد الحرب الأهلية اللبنانية حيث ماتت أمّه في انفجار، ومرة هو ابن مدرّس للغة العربية يعمل في إحدى دول الخليج، ومرة ثالثة يقول إنه كان مع إحدى الميليشيات وكان دوره إيصال الجثث إلى ذويها أو رميها إن لم يستطيعوا إيجادهم والكثير من القصص. وهنا تكمن أهمية هذه الشخصية «اللاجئة» في مكان مخصص للجوء واللاجئين، فنتوقّع مع قصصه ما سيسرده أبناء الشمس المشرقة من قصص حقيقية وأخرى من نسج خيالهم للأجيال التي ستنشأ وتكبر هناك.
لقد ذكرنا أنها رواية مرهِقة، اعتمدت الوصف الدقيق لرسم معالم الأماكن الخاصة بعالمها، والوصف جاء ليؤدي دور الإيهام بالواقع الذي يحتاج إليه القارئ عندما يقرر الروائي خلق عالَم متخيَّل ليؤدّي، مع الشخصيات والزمان والأحداث، أدواراً تطرح قضايا اجتماعية كثيرة، كاللجوء والفساد وغيرهما، وليؤدّي أيضاً دوراً أبسط، كي يأخذ القارئ استراحات بسيطة قبل اللحاق مجدداً بالشخصيات وحيواتها المشتابكة.
هي «يوميات» تلك الشخصيات في «الشمس المشرقة». يومياتهم بكلّ خيباتها وبؤسها، بكلّ انتصاراتها الصغيرة في عيون الآخرين، بكلّ الصراعات النفسية التي تصيب هذه الفئات المهمّشة في مجتمعاتنا، فالشمس المشرقة ليست فقط مكاناً اخترعته ميرال الطحاوي على الحدود الجنوبية الغربية لأميركا، بل هي العشوائيات في مصر، ومخيّمات الفلسطينيين أينما كانت، ومخيمات اللجوء السورية واليمنية، والأحياء حيث الأقليات الفقيرة في مناطق لبنان الطائفية، وغيرها الكثير بحسب البلد وبحسب انقساماته، حيث يشعر أبناء البلاد بأنفسهم لاجئين في أوطانهم. صحيح أن النصّ اختار أن يُبعِد المكان عن عالمنا العربي، لكنه بذلك قرّبه أكثر من خلال المقارنات التي يجريها القارئ حتى يكاد يظنّ أنه يقرأ عن منطقة يعرفها في بلده.