
عندما يبدأُ الشّتاءُ بلملمةِ أغراضهِ استعداداً للرّحيل، يكون هناك مَن يراقبُ تحرُّكاتهِ الفوضويّة بحذر شديد دون أن يُصدرَ صوتاً، يلفُّ نفسهُ بمعطفٍ ذي طبقات رقيقة ويتمسّكُ به بقوّة لكيلا تقتلعهُ الريحُ الغاضبة بآخر نفثاتِها الصقيعيّة.
إنها براعم الأزهار التي تُقاومُ البرد بثبات وهي تنتظرُ قبلات الرّبيع لتفترّ عن ابتساماتها العذبة فتأسر قلبَ كلّ ذي قلب. ومَن غيرها يجرؤ على تحدّي قسوة الشتاء بمعطفٍ ذي طبقاتٍ رقيقة؟!
في طريقي إلى المشفى مشتَلَينِ كبيرين اعتدتُ أن أُحَيّي أزهارهما كلّ صباح دون أن أخفي ابتسامتي بلقياهم، وعند عودتي أيضاً كنتُ أودِّعُهم بأنظاري وكُلّي لهفةٌ إلى يومِ الغد.
رافقني ذلك المشتَلين قرابة الثلاثة أعوام حتى الآن، وكانا السبب في تكويني لعدّة نظريّات خاصّة بالأزهار.
الأولى هي أنّه وكما للأزهارِ مظهرٌ تراهُ الأعين ورائحةٌ تشتمّها الأنوف؛ فإنّ لها صوتاً تسمعهُ الآذان إذا ما أنصَتَت جيّداً.
كنتُ أُسكِتُ الجَلَبةَ المنبعثة من عقلي ومن أصوات الناس والسيارات في الشارع من حولي وأصغي إلى صوتها وبوحها الرّقيقين، كانت تُحدّثني بهدوء فتُعيدُ ترتيبَ فوضاي وتُهدّئُ الأمواج المتلاطمةِ في روحي.
لا تصدّقوني أليس كذلك؟! حسناً سأسألكم بضعة أسئلة أجيبوني عنها ثمّ انقُضُوا نظريّتي بعدها ما أحببتَُم.
ألا تسمعون الأزهار حين تقولُ “أُهنّئك” عندما يلهجُ القلبُ بتشاركِ المسرّات والنجاحات، وحين تقول “أشكرك” عندما يفيضُ اللطف من راحات الأيادي ومن ألسنةِ العقول، وحين تقول “سلامتُك” عندما تَبهَتُ لمعةُ العيون تحتَ وطأةِ المرض؟!
ألا تسمعونها حين تنتظرُ الإيقاعَ المتسارع لنبضات القلوب لتقرعَ أبواب اليقين بشجاعة وتقول: “أحبُّك”؟!
وحين ينقشعُ الضّبابُ عن تعرّجات التّلالِ المستترة وهي تقولُ “سامحني”؟!
ألا تسمعونها حين ينكسرُ الوزنُ في قوافي القصائدِ الطويلة فتقول “أفهمُك”، وحين تجمدُ الملامحُ فوق قبرٍ من ملحٍ وخبز فتقول “أفتقدك”؟!
إن كان هناك مَن لا يسمعها حين تقولُ كلّ ذلك فرُبّما يحتاجُ لأن يُنظّفَ أُذنيه من الصّخب والضجيج أوّلاً ثمّ يعاود الكرّة من جديد، وسيسمعُها بلا شكّ.
وكاستكمالٍ لبنود النظريّة الأولى يمكنني إخباركم بما لم أسمع الأزهار تقولهُ أيضاً. لم أسمعها تقولُ يوماً “أكرهك” أو “أحسدك” أو “أحقد عليك” أو “أخدعك” كما لم أسمعها يوماً تصرخُ ب”سأقتلك” أو “سأسرقك” أو “سأنتقم منك” أو “سأظلمكُ كما ظلمتني” أو “سأجبرك أن تفعل ما أراهُ صحيحاً “.
إنّها الكائناتُ التي خلقها اللّه لتحمل على عاتقها تمثيل النّقاء الذي لا يشوبه شائبة في هذا الكون المليء بالشّوائب، ويا لها من مهمّةٍ ثقيلةٍ على بتلاتها الخفيفة الناعمة، ونغماتِ صوتِها الرّقيقة، لكن صَدَق المتنبي عندما قال “على قدر أهل العزمِ تأتي العزائمُ” فالأزهارُ لا تزالُ تُجاهدُ كُلّ يوم لتقومَ بمهمّتها على أكمل وجه حتّى في أكثر الطرقِ مشقّةً ووُعورة.
وأمّا بخصوص نظريّتي الثانية فيمكنني القول بأنّها انبثقت عن الأولى، لذا سأدعو مَن لم يؤمن بصحّة الأولى ألّا يُجامل نفسهُ ويُتعِبَها بإكمالِ طريقٍ لم يبدأها، فأنا وإن كنتُ قد استطعتُ أن أشرحَ وأن آتيَ بالأمثلةِ والبراهين لأُثبت نظريّتي الأولى فهذا ما لا أستطيع فعلهُ مع الثانيّة، وما حُجّتي الوحيدة التي يمكنني قولها بهذا الشأن سوى أنّني لطالما آمنت بوجود ما لا يجب على الجميع إدراكه أو الاقتناع به، لذا لن أمانع بأن يقولُ لي أحدهم: ما لك تخلطين بين الفرضيّات والنّظريات على هواكِ؟!
باختصار تتلخّص نظريّتي الثانية باعتباري أنّ الأرواح النقيّة تتحوّل إلى أزهار بعد أن تموت، ومن هنا تأتي الأزهار بنقائها الذي تحدّثتُ عنه، وإنّ مهمّة هذا النّقاء المُعاد إحياؤهُ من جديد هو إعادة التّوازن إلى عالمنا العَكِر وحراستنا من شوائبه، وبالعودة إلى قول المتنبّي مُجدّداً؛ ليست كلّ الأرواح تستحقّ أن تُزهر بل عليها أن تكون نقيّة بما فيه الكفاية لتعبر الأزمنة وتُولد من جديد كلّ ربيع.
بعيداً عن النظريّات والتّنظير أريدُ أن أقول لكم أمراً واحداً أخيراً؛ اعتنوا بالأزهار التي في قلوبكم ولا تدعوا أنياب هذا العالم تقتلعها!
فقط تخيّلوا معي شكلهُ فيما لو خلا من الأزهار؛ أليس ذلك هو أسوأ كوابيس البشريّة؟!
تقولون نعم؟!
إذاً استيقظوا أيّها البشر النّائمون.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة