ناقد أميركي يرى أن العالمية محض وهم سردي
هل الكتب التي أتاح لنا الحظّ فرصة قراءتها مثل روايات أورهان باموك أو روبرتو بولانيو أو إيلينا فيرانتي، هي حقاً الأفضل والأكثر أصالة بين الروايات الأخرى المكتوبة بذات اللغات التي كُتبت بها هذه الروايات؟ أم أنها ببساطة الروايات التي تناغمت مع الحسابات التجارية القائمة فحسب؟
يشكل هذا السؤال محور الكتاب الذي ترجمته الكاتبة العراقية لطفية الدليمي، وصدر مؤخرا عن دار المدى بعنوان “الرواية العالمية.. التناول الروائي للعالم في القرن الحادي والعشرين”، الكتاب يضم ترجمة لست مقالات لآدم كيرش، وهو ناقد وشاعر أميركي، أصدر العديد من الكتب التي أثارت جدلا كبيرا، وهو عبر مقالات كتابه الأخير يطرح فكرة “الأدب العالمي” باعتبارها تسمية لطريقة الكتابة والقراءة التي تتعامل مع العالم بكليته باعتباره موضوعها والجمهور القارئ لها.
فالأدب يمثل وسيلة لمداعبة خيالات القرّاء عبر الحدود المتعالية التي قد تقيمها الحكومات لكن برغم هذا الدور العابر للحدود الذي يلعبه الأدب فإنّ الحقيقة أن الآليات المؤسساتية التي يتمّ بموجبها الاحتفاء ببعض الروائيين تظلّ غامضة وغير مفهومة على نطاق واسع، ولذلك فهي عرضة للشبهات والتشكّك على الدوام، ومنها ما يتعلق بالمظاهر الإحتفالية تجاه الإختلافات ذات البصمة الإثنية أو القومية والتي يتم تسويقها بعد أن تمّ تسليعها تجارياً تحت يافطة الهويات المسكوت عنها.
أما الكتب التي تقف موقفاً مضاداً من هذه الهويات “فلن تحظى بفرصة الترجمة والانتشار العالمي، بل ربما لن تجد من يكتبها على الإطلاق بعد أن بات الكتّاب على اختلاف لغاتهم مدركين للتوقعات التي تتطلبها السوق العالمية”.
فمنذ اللحظة الأولى التي يدركُ فيها الكاتب أنه يخاطب جمهوراً عالمياً وليس محليا فإنّ طبيعة كتابته ستكون عرضة لتغيير جوهري، فيبدي ميلاً طاغياً لإزاحة كلّ العوائق المحلية المفترضة التي تقف عائقاً أمام الفهم العالمي، وهذه التهمة الأدبية المشهرة دائما بوجه أعمال هاروكي موراكامي الذي صار يعتمد لغة تبسيطية موغلة في الإستسهال الأدبي على حدّ زعم مجايليه من الكتّاب اليابانيين الآخرين. ومن وجهة النظر هذه يبدو ما يسمى بالأدب العالمي “وعاءً فارغاً لترسيخ التفاخر الذاتي العابر لدى الأقليات النخبوية العالمية”، وبالتالي فأيّ منتج أدبي ينال إحتفاءً من جانب النظام الرأسمالي العالمي لا بدّ أن يتمّ تحييده ومن ثمّ تدجينه من جانب النسق النيوليبرالي الحاكم في العالم؛ إذ أنّ كلّ ناشري الكتب هم في الغالب أذرع صغيرة للتجمعات الرأسمالية العملاقة، وأنّ الإحتفاليات الأدبية التي تحتفي بالأدب العالمي إنما تحصل بفعل التمويل السخي لكبريات الشركات الرأسمالية في العالم.
كيف يمكننا أن نتوقع في حالة مثل هذه أن يحظى عمل ذو رؤية مخالفة للسائد أو خارجة عن السياق العام بدعم مثل هذه القوى المالية المتغولة؟ ألا ينبغي جعل الأدب العالمي مصاغاً في قوالب قياسية بعيدة عن منافسة وتهديد الأنساق النيوليبرالية السائدة تماماً مثل حالة مطاعم وجبات ماكدونالد السريعة حيث يتشابه الحال على نطاق عولمي في أبوظبي وسياتل وشانغهاي.
هكذا تجد صفة العالمية في الرواية نفسها عالقة في لُجّة منظومات وتحديات وأساليب حياة تتعالى على كلّ محدوديات الأمة واللغة، كما في رواية “أمريكانا” للكاتبة النيجيرية تشيماماندا نغوزي أديتشي، فإيفيميلو في الرواية ليست مهاجرة تقليدية بل تسافر موسميا بحسب سياقات العيش في القرن الحادي والعشرين؛ فهي تقيمُ في الولايات المتحدة لكنها لم تصبح أميركية تماما، لذا تعود في نهاية الأمر إلى بلدها الأمّ. تُرينا أديتشي في روايتها أنّ مثل هذا المسافر العالمي قد تمّت هيكلته بصورة مثالية ليرى المجتمع من خارجه وعلى الشاكلة ذاتها التي يتطلّع كلّ روائي للإمساك بها وامتلاك القدرة على توظيفها في عمله الإبداعي؛ لذا تحفل رواية أديتشي بتبصّرات إيفيميلو حول الحياة الأميركية وبخاصة عندما تقارب الرواية موضوع العلاقات العِرقية، فتبدو عالمية اقرب لكونها كوميديا من العادات والتقاليد المجتمعية السائدة.
لكنّ الرواية يمكن أن تكون عالمية في مخيالها السردي حتى لو كان مجالها مقيداً في حدود بلدة محلية كما في رواية “ثلج” لأورهان باموك. تروي رواية “ثلج” حكاية شاعر تركي عائد من منفاه السياسي في ألمانيا ليستقرّ في بلدته التي باتت معزولة عن العالم بفعل عاصفة ثلجية، ويحدث أن تشهد البلدة إنقلاباً مدبّراً من قبل جماعة علمانية تقتل السكّان المسلمين، وهكذا تصبح رواية “ثلج” حكاية رمزية تتناول العلاقة بين أوروبا والعالم الإسلامي من جهة، وبين الحداثة والدين من جهة أخرى، وهي الموضوعات الأكثر أهمية وراهنية في اللحظة العالمية السائدة من غير الإضطرار لمغادرة السياق المحلي لوقائع الحكاية.
كذلك يمكن للروائيين أن يكونوا عالميين عند تناولهم موضوعات تختصّ بمستقبل النوع البشري، كما في رواية الكندية مارغريت آتوود “أوريكس وكريك” والفرنسي ميشيل ويليبيك في روايته “إمكانية جزيرة” وهما متشابهتان في استشرافهما لفناء الجنس البشري، ففيهما نجد أنّ الجرائم والنهب المنظّم من جانب الجنس الذكوري هو ما يجعل إضمحلال الإنسانية وانكفاءها ثمّ تلاشيها يبدو أمراً مسوغاً إلى حد كبير.
كذلك يلاحظ كيرش أن العديد من الروائيين العالميين يعتبرون العنف الجندري مدخلا لفهم العالم، كما في رواية روبرتو بولانيو “2666” التي تدور أحداثها في مدار القتل الجمعي للنساء في مدينة واقعة على الحدود الأميركية – المكسيكية. كذلك تتناول رواية موراكامي المسمّاة “Q84 ” حكاية قاتل يثأر من الرجال سيئي التعامل مع النساء، وحتى إيفيميلو بطلة رواية “أديتشي” تتشكّل حياتها إلى حد كبير بفعل تجربتها القصيرة في العمل بميدان الجنس، وكذلك الروايات النابولية للكاتبة فيرانتي ليست سوى ملحمة سردية عن العنف الأبوي، فيكون السفر المستمر بالطائرات هو ما يرسّخ شعور الحرية بداخلها لكن برغم كلّ الأفق العالمي في الرواية فإنها توضعُ في مقابل تأثير تلك المنطقة الفقيرة في نابولي التي لا تستطيع الهروب من قيودها بصورة كاملة.
ويرى كيرش أن “التحدي الماثل أمام الروائي العالمي يكمن في أمور كثيرة هي في جوهرها مسألة أسلوب وتقنية: كيف يتأتى لكاتب متجذر في ثقافة ما أن ينقل حقيقتها إلى قراء من أماكن وثقافات شديدة التباين؟”.
ويخلص في النهاية إلى أنه لم يوجد بعد الروائي الذي وجد حلا للصراع الناشب في روحه بين ما هو محلي وما هو عالمي، وعلى نحو كلي مقبول؛ فمعظم الحيوات البشرية تعاش في مكان واحد بعينه، وتستخدم لغة واحدة بعينها، لذا سيبقى البعد العالمي في تجربتنا البشرية محض بعد سردي وموضوع يثار من خلال الخيال دوماً والسياسة غالباً؛ والرواية العالمية هي الثورة الأحدث المطالبة بالإرتقاء بالخيال الخلّاق الذي يتطلّبه التعامل مع عالم معولم بالغ الإختلاف كالعالم الذي نعيش فيه. (وكالة الصحافة العربية)
ميدل إيست أونلاين